في مثل هذا اليوم، من العام 1936، ولد المعلّم الشهيد غسان كنفاني في عكا.
كل عام سيمر علينا، ستسقط فيه الاجساد لتبقى الفكرة، سنُبحر الى يافا من ميناء صيدا، كما جاء إلينا، ونسقط شهداء دفاعًا عن كلمتنا وقضيتنا، في بيروت، دمشق، بغداد وصنعاء، سنرافق رجالاً تحت الشمس يحلمون بالوطن، ونتعلم ما هو الوطن من صفية، خلال طريقنا الى حيفا، يسابق دمعنا الشوق. سنرتشف القهوة صباحًا مع ام سعد، لتخبرنا كيف يجترح المنفي مفرداته، وكيف ينزلها في حياته كما تنزل شفرة المحراث في الأرض.
غسان الذي ولد في عكا ونشأ في يافا وعاش في بيروت وتعلّم في دمشق، كان له رسالة وحيدة، واضحة وصريحة وهي تحرير فلسطين من الاحتلال، ولأن ايمانه بالجيل الصاعد كان كبيراً، كرّس وقته وكتاباته لفلسطين، لتكون بمثابة “فهرس” للشعب الفلسطيني والعربي عن العداء للصهيونية وسبل التحرير وعودة الأرض إلى أهلها.
كان كنفاني من المثقفين القلائل منذ ذلك الوقت حتى اليوم الذي دعا إلى الاشتباك المباشر والكفاح المسلّح. وبعدما تم اغتياله في بيروت عام ٧٣ رداً على “عملية اللد”، ظن الكيان الصهيوني أن غسان “قد مات”، حتى يأتي بعد عشرات السنين شاب فلسطيني يدعى باسل الأعرج ليذكرهم أن “المناضل المشتبك” ما زال حياً، وأن فكر كنفاني لم يمت. فاغتالته اسرائيل خوفاً من انتشار ظاهرة الاشتباك مجدداً. وبعيداً عن التفاصيل وظروف الحياة والمرحلة، لو نظرنا لوجدنا انه لا يوجد فرق كبير بين مسيرة حياة كنفاني ومسيرة الأعرج، فالأول كان مطاردا من جهات عربية تعمل لصالح جهاز الموساد الصهيوني، والثاني كان مطارداً من جهاز المخابرات الفلسطينية تحت عنوان “التنسيق الأمني”.
كانت القضية الفلسطينية محور حياة كنفاني، ولم يتردد يوماً بالدفاع عن فلسطين التي أحب، وعن وعده للعودة إلى حيفا. كان مقتنعا تماماً انه سيعود يوماً لفلسطين محررة من دنس الاحتلال. واقنعنا بسطوره اننا لسنا فقط “أرقاما على ملفات الأمم المتحدة” واننا لسنا لاجئين ولا يجب أن نرضى أن نكون كما يريدنا الكيان الصهيوني والأنظمة العربية المنبطحة. فأسس مؤسسات تعليمية وبدأ يعطي الدروس والمحاضرات، وراح يكتب عن فلسطين ويذكر اننا “لدينا قضية ويجب ان نعمل لأجلها” وأن “لا أحد يصحى ويجد وطن بانتظاره”. كانت رسالته واضحة، أن علينا ان نعمل لأجل التحرير، أو سنبقى أعداداً على كشوف الأمم المتحدة.
لم تكن حياة كنفاني الخاصة بعيدة عن النضال، ولم يكن حديثه غير ما قرأناه في كتبه، وكل من عرفه يتغنى بذلك “الذكي” الذي لم يتكرر بعد على الساحتين الأدبية والنضالية الفلسطينية والعربية حتى يومنا هذا. حالفني الحظ في احدى الجلسات في بيروت بأن التقيت احد اقرب الأصدقاء لغسان، ودار الحديث لساعات عن “بريق عيني” كنفاني، وعدم مهادنته. يقول أحد اصدقائه: “كان شرساً جداً عندما كان يتحدث عن قتال الصهيوني، ولم يرض يوماً ان يسمع كلمة سلام في اي مجلس”، بينما كان عاطفياً جداً مع اصدقائه واقاربه. لم يكن غسان يخاف الموت، فهو يعلم ان الموت سيأتي عاجلاً ام آجلاً، وفي آخر ليلة له تمنى عليه احد الأصدقاء ان لا يأخذ السيارة، بل يستخدم سيارة اخرى لأنهم كانوا قد سمعوا بعض “الأصوات” المريبة ليلاً في المنطقة، فلم يكترث كثيراً للنصيحة ورد: “بتكون شوية بسينات بلعبوا”. ورحل كنفاني تاركاً إرثاً لأعوام تأتي، وكان احد تلامذته المقاوم المشتبك باسل الأعرج، والذي كان يحاضر في الاشتباك ودحر الاحتلال ورفض فكرة السلام مع المحتل مهما كلّف الثمن، وكان ثمن افكاره الثورية كما كنفاني.. حياته.
كان كنفاني وبحسب اصدقائه يكره ان يرى طفلاً لا يعرف ان يقرأ او يكتب، فكان يحاول جاهداً اقناع الأهالي ان طريق تحرير فلسطين تبدأ بفتح الكتاب، إذ ان العدو يخاف المقاوم المثقف اكثر، لأن بقاموس غسان المقاوم يجب ان يكون على إطلاع ودراية بتاريخ الصراع. فكان يحاول دائماً مساعدة هؤلاء واقناعهم بأن العلم هو الأساس، وان الكيان الصهيوني سيهزم إذا كنا نقاتل على كل المحاور، ولا يمكننا ترك أي ثغرة للكيان الصهيوني ليدخل منها إلى مجتمعنا لذلك علينا ان نكون جاهزين في كل الساحات. فترك لنا الكثير من الكتب والمراجع لنطالعها ونتعلم منه سبل الإشتباك مع الصهيوني عبر كل المجالات، وبهذا الطريق نعود إلى حيفا حيث أرادنا ان نكون. وكان باسل الأعرج المثال الذي اراده كنفاني فينا جميعاً، فهو ارادنا مثقفين مشتبكين.
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع