قال أمير من أمراء بلاد الغال1  حين عرّف الحق بأنه: "امتياز وهبته الطبيعة للقوي ليقهر به الضعيف على طاعته". تعريف عُمِل به دائماً في جوهره مع اختلاف الرؤى والنظريات، كالنظرية الميكافيلية التي تبرر استخدام القوة في حال امتلاكها للوصول الى الغاية بغض النظر عن مشروعية الغايات فضلاً عن الاسلوب، وكالنظرية المالتوسية في السكان، حيث يرى توماس مالتوس أن السكان يتزايدون وفق متتالية هندسية وموارد الطبيعة وفق متتالية حسابية، فيتضاعف عدد السكان كل فترة لتضعف قدرة الطبيعة في تلبية حاجات هؤلاء السكان، وهذه النظرية برّرت الكثير من الحروب والاستعمار والصراعات للقوى الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا، لإعادة التوازن بين عدد السكان وموارد الطبيعة. طبعاً سيكون البقاء للأقوى في هذه الدوامات المميتة.

ونظريات اخرى تناغمت مع الاصل الغالي، أو غلفّت نفسها بلبوس انساني وتقدمي ولكنها إما كانت ادوات للسيطرة والاستعمار على الشعوب أو أنها كانت ضعيفة امام الفلسفة الغالية النيتشية.

يقول فيرجيل وهو شاعر روماني، صاحب قصيدة الإنياذة: " “أنت يا روما عليك حكم الشعوب ” وهي المقولة المعبّرة عن مزاعم الإمبراطوريات الإمبريالية الأوروبية التي استعمرت وأحرقت وأبادت شعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية بأسانيد من أغاليط وأباطيل المستشرقين، حتى لدى هوميروس في ملحمتيه الإلياذة والأوديسة، كذلك في إشعار سيموئيديس وغيره من شعراء الملاحم الإغريقية نجد تمجيداً لقتل الآخر، وإشادة بالعنف والسادية، وتصويراً لروح عنصرية وطبقية متعالية، جاء ما يُقال عنه عصر التنوير، والذي يعتبره كثيرون النقلة النوعية في الفلسفة الانسانية تجاه التحضر والتمدن، متناسين التجارب الراقية التي مرت بها الانسانية مع المسيحية الاصيلة البعيدة عن تلاعب قسطنطين بين عامي 306 و337 ميلادية، ورسالة الرحمة الاسلامية والتي اصطنع بعض مذاهبها واتجاهاتها هذا الغرب ليضرب الصورة النموذجية لهذا الاسلام، ويقدم صورة نمطية غاية في التوحش خوفاً من انتشاره بين ربوعهم بمنظومته الحقيقية التي تكمل ما جاء به السيد المسيح ومن قبله نبي الله موسى.

فلاسفة من عصر التنوير أسسوا للشر والسيطرة والاستعمار
لست بصدد الخوض في تحليل ما ذهب اليه هؤلاء الفلاسفة، ومنعاً للإطالة سأورد بعض اقوالهم التي تُظهر صراحة عدم خروجهم من ايديولوجية القهر والسيطرة على الغير، وبقائهم على الموروث الغالي والفايكينغي والجرماني. 
آدم سميث:
"لا ننتظر من الجزار أو بائع الجعة أو الخباز أن يوفر لنا عشاءنا بفعل الاهتمام بنا وحده، بل بفعل الفائدة التي يجلبها توفير هذا العشاء لمصالحهم، إننا لا نتوجه بالخطاب لإنسانيتهم وإنما لأنانيتهم"
يقول نيتشه: 
” البشرية يتم التضحية بها من أجل نوع من الرجال هم الأكثر قوة، ليسودوا، وهذا هو التطور”
توماس هوبز:
"الربح هو مقياس الحق".
ميكافيللي:
"الغاية تبرر الوسيلة".

سأكتفي بهذا القدر لأقول ان هؤلاء الفلاسفة ويُضاف اليهم مالتوس سابقاً وفوكوياما وهينيغتون حالياً، شرّعوا كل حروب الاوروبيين الاستعمارية وفرض القوة على بعضهم ولم تنفع اتفاقيات ومعاهدات في كبح جماح طمعهم في ثروات بعضهم وثروات شعوب العالم، فلم يألوا جهداً الا فعلوه للاحتلال والسرقة. وقد يقول قائل إن بعض الفلاسفة نظّروا للحرية والانسان والاخلاق كسبينوزا وروسو وغيرهما، ولكن تُطرح في هذا المقام عدة اسئلة ليست الا محض اشكاليات وتساؤلات لا نريد اجابات عليها لعلمنا المسبق بهذه الاجابات.
1. اين كان هؤلاء وفلسفتهم من كل الحروب والاجتياحات والنزاعات؟
2. لما لم تؤثر فلسفتهم في سلوك الدول والافراد الاوروبيين والاميركيين؟ 
3. هل كانت فلسفة هؤلاء لترتيب البيت الداخلي الاوروبي وبعده الامريكي، ولم تنسحب على الجوييم (الاغيار بالتعبير اليهودي)؟
4. لِمَ لمْ نسمع الكثير من التنظير في حقوق الشعوب الفقيرة والمسحوقة؟ فرغم قراءاتنا المتعددة لفلسفة هؤلاء لم نجد وبقوة ما يقف بوجه محاولات الهيمنة على الشعوب والاستئثار بثرواتها.

قد تكون نظرتي عند البعض متطرفة، بالقول ان النموذج الاورو-امريكي ليس جديراً بالاقتداء، ولا اعتقد انه سيترك اي فراغ في حال التخلي عنه، فالحضارات الباقية لديها من القوة ان تبني نظريتها الخاصة تجاه الدولة والامة، وبالتحديد الاسلام الاصيل.
هذا كان رأيي قبل محنة الكورونا، فكيف الان، في ظل بعض الانهيار الذي اصاب مبنى الحضارة الأورو-اميركية رغم التطور التكنولوجي، وبيّنت بعض العيوب وهي خطيرة وتكشف المعدن المهترئ والصدئ لهذه المنظومة؟

ماذا نرى الان: 
• دولاً (وأعني الاوروبية والولايات المتحدة) استغنت عن بعضها بعضاً، أحجمت عن المساعدة، تبادلت الاتهامات والناس تصارع الموت وتقع في الشوارع في منظر انساني حزين يُبكي الاحجار.
• ادارات تريد مواجهة الوباء وفق نظرية مناعة القطيع والبقاء للاقوى المنبثقة من نظرية توماس مالتوس، ولكنها حقيقةً تنطلق من حسابات الربح والخسارة، في سلوك مالتوسي غريب، هذا المالتوس الذي صرّح بأن زيادة السكان في متوالية هندسية لا تتلاءم مع تطور الثروات الطبيعية (متوالية حسابية)، وعليه لا بد من تناقص عدد السكان بالحروب والاوبئة والكوارث.
• يُضاف الى حسابات الربح والخسارة، مقارنة التكاليف الاقتصادية لحماية الناس، فظهر مؤشرها اعلى من التكاليف الاقتصادية لمرضهم وموتهم، فكان القرار اولاً بترك الفيروس يجتاح المجتمع بحجة المناعة المفترضة، مع ان بعض الوقائع اثبتت أنه من الخطأ السير في هذه النظرية لأسباب عديدة، منها عدم الاحاطة الكاملة بهذا الوباء، فجاءت اجراءات الحماية متأخرة، ولا استبعد بقاءهم على النظرية من تحت الطاولة.
• تُمعن هذه الدول في حصار خصومها وفي مؤامراتها، رغم الوضع الانساني الذي تعيشه البشرية، ولم تغيّر في سلوكها رغم الازمة العالمية، وإن حاول البعض التبرير بأن الحصار لا يطال المعدات الطبية، فهذا كذبٌ صريح، ومن جهة ثانية تحتاج الدول المحاصَرة الى المواد الاولية الغذائية ايضاً ولتجهيزات مساعدة في المواجهة.
• ما لفتنا ايضاً عمليات السطو وبكل ما للسطو من معنى لمساعدات طبية مرسلة الى دول موبوءة، كما حصل في قرصنة تشيكيا لمساعدات طبية مرسلة الى ايطاليا في مشهد مافياوي غريب.
• اما ما يحصل في الداخل الامريكي، وتحديداً في المناطق التي تفشى فيها الوباء، فيكشف عن الفردية المتجذرة بالشعب (مع ثلاثة خطوط تحت كلمة شعب)، شراء اسلحة، ارتفاع منسوب جرائم السرقة وعمليات السطو والقتل، فوضى كبيرة في عمليات الشراء ومحاولة التخزين بشكل اناني للمواد في صورة نمطية لا يدل على ان هذه الدولة هي الاقوى اقتصادياً وقدراتياً.

وبناء على ما سبق، نرى أن المنظومة القيمية والاخلاقية والاجتماعية وحتى السياسية، تضعضعت بشكلٍ كبير وان اشتدت الازمة اكثر فمآلها الى الانهيار، وإن كان لهذا الانهيار تبعات كبيرة على المستوى العالمي، ولكن على الشعوب والدول المتضررة من هذه المنظومة أن تكون جاهزة لهذا الوضع. وإن لم تنهر فمن الطبيعي أن تتغير حسابات الدول، والعلاقات الدولية، ومشهدية التحالفات، وقد نكون على موعد مع بزوغ فجرٍ جديد.  

ـ باحث سياسي

1 - يُقصد ببلاد الغال، قديماً الى العصور الوسطى، إقليم قديم من اوروبا الغربية يشمل فرنسا وبلجيكا والجزء الشمالي من ايطاليا

المصدر: خاص الرافد