"أمن الطاقة: الحالة أو الوضعية التي تكون فيها إمدادات الطاقة متوفرة في كل الأوقات، وبأشكال متعددة، وبكميات كافية، وبأسعار معقولة" - الأمم المتحدة
في الحديث عن النفط كمصدر من مصادر الطاقة، من المهم الإشارة إلى كونه المصدر الأساسي حول العالم حالياً، ولو كانت هناك خطط للانتقال إلى مصادر أخرى مثل الطاقة النظيفة، إلا أن خطوات هذه المشروعات ما زالت غير كافية لعملية استبدال شامل.
لذا، إن مسألة إنتاج النفط لا تقل أهمية عن مسألة أمن وصوله إلى الأسواق. وبناء عليه، إن الاضطرابات النفطية في السعودية، وهي من أكبر المنتجين عالمياً، أي الاهتزازات التي ترافق أمن النفط المعروض، لا تؤثر في الإنتاج فحسب، بل في السوق المستورِدة أيضاً.
ضمن هذا المسار، من الإنتاج إلى السوق، والذي يدخل ضمن مفهوم "أمن الطاقة"، تصبح كمية الإنتاج والسعر خارج دائرة سيطرة الدول المنتجة في حال كان التأثير فيهما عاملاً لا يمكن التحكم فيه إدارياً، أي أنه عامل مؤثر من خارج القرارات الرسمية، مثل دخول إحدى الدول المنتجة للنفط في حرب، كما هي حالة التحالف السعودي في حربه التي ما زالت مفتوحة ضد اليمن.
في الحالة التي يكون فيها التأثير في مصادر الطاقة لدى الدولة المنتجة من خارج السياقات الطبيعية، فإن الضرر يتحرّك باتجاهين؛ الاتجاه الأول هو الدولة المنتجة نفسها، بسبب عدم قدرتها على ضبط كميات الإنتاج وتعطل مهماتها الإنتاجية اليومية، والاتجاه الثاني يتعلق بالأسواق العالمية وما تراه من معايير متعلقة بـ"أمن الطاقة"، لأنّ كمية المعروض عليها وسعره خارج إطار التحديد بينها وبين المنتج.
وبما أن التعريف الأساسي لـ"أمن الطاقة" ينطلق من العمل السياسي، وأحياناً العسكري، على منع حدوث أزمات مرتبطة بالمعروض والقدرة على وصوله إلى الأسواق، فإن ارتباطه بطبيعة النظام الدولي كان ارتباطاً مباشراً، ولا سيما أن العلاقات الدولية، كركيزة من ركائز النظام الدولي القائم، تعطي مسألة مصادر الطاقة أولوية كبيرة. وفي مرحلة من مراحل التاريخ، كانت الطاقة ومصادرها هي المحدد لطبيعة العلاقات والنظام.
هذا الترابط يعطينا المعادلة التالية: التأثير في مصادر الطاقة من خارج المألوف يؤثر في المعروض، والتأثير في المعروض يؤثر في الأسواق، والتأثير في الأسواق والمعروض يؤثر في أمن الطاقة، والتأثير في أمن الطاقة يؤثر في جانب من جوانب العلاقات الدولية، والتأثير في هذا الجانب يطال النظام الدولي، ويدفعه إلى اتخاذ إجراءات مستعجلة لإعادة الوضع إلى المسار الذي يضمن مصلحته السياسية والاقتصادية.
من هنا، إن التصريحات السعودية الصادرة في الآونة الأخيرة حول عدم تحمّل الرياض أي مسؤولية في عرقلة وصول المعروض إلى الأسواق نتيجة العمليات اليمنية تدخل ضمن تلك المعادلة. وبغض النظر عن سؤالَي: "ماذا تريد السعودية؟ وعلى من تضغط؟"، فإن الحدث وقع بتعرّض "أمن الطاقة" الغربي للخطر.
وبما أنّ الدول الكبرى المتحكمة في طبيعة النظام الدولي تعتمد بشكل كبير على الطاقة المستوردة، ولديها نقص استراتيجي في الطاقة، فإن الضربات اليمنية التي طالت إحدى أكبر منشآت ومصافي التصدير في العالم (لا نتحدث عن آبار فقط) جعلت مصادر الطاقة وسعرها خارج دائرة تحكّم هذه الدول، وجاء العامل الخارجي ليكون من سياساتها في مقاربة الأزمة من ناحيتين؛ إمّا الاعتراف بهذا العامل ودوره المؤثر والتفاوض معه بما يريده من مطالب، وإما مواجهة هذا العامل ومحاولة القضاء عليه.
على مدار 7 سنوات من الحرب على اليمن، حاولت الدول الغربية الكبرى القضاء على هذا العامل الخارجي المؤثر (العمليات اليمنية) وفشلت في ذلك، مع استمرار ضرباته وتصاعد حدتها وتأثيرها فيها. لذا، إن المنطق السياسي يدفع باتجاه ذهاب هذه الدول نحو التفاوض والاعتراف بهذا العامل بعد فشلها في القضاء عليه، كعامل مؤثر في "أمنها المتعلق بالطاقة".
ونتيجة ارتباط هذا الأمن بعلاقاتها الدولية، وارتباط تلك العلاقات بواقع هيمنتها على النظام الدولي، فإن هذا العامل بات مؤثراً في النظام الدولي، إذ دفعه إلى الاعتراف به نتيجة تأثيره فيه وفي سياساته. هذا لا يعني بالضرورة إحداث تغييرات أو تشكيلات جديدة في النظام الدولي، لكنه على أقل تقدير يعطي العامل المؤثر في أمن الطاقة مكانة وحضوراً في هذا النظام، نتيجة اعتراف الأخير بتأثيره.
الاعتراف بالأثر الذي يتركه هذا العامل (اليمن) في أمن الطاقة (كما فعلت السعودية) يعد سابقة، وستكون له تداعيات خطرة على أكثر من صعيد؛ إمّا من ناحية تجرّؤ عوامل أخرى على فرض نفسها من خلال هذا الباب، وإما الكشف عن ثغرة مهمة جداً في تحديد الشروط التي سيفرضها اليمن في أي مفاوضات، ليس على الرياض فحسب، بل على عواصم غربية أخرى تتحكم في مسار الحرب ومصيرها أيضاً.
يحاول الغرب الالتفاف على هذا التأثير بعدّة طرق، من ضمنها تحويل الحرب في اليمن إلى حرب بالوكالة بين فريقين، فالتصريحات الأميركية تحديداً ركّزت في الأيام الأخيرة على اتهام إيران بأنها تقف خلف العمليات اليمنية، واعتبارها المحرّك في التوقيت والجغرافيا والهدف (كما جرت العادة).
تريد واشنطن من خلال ذلك عدم الاعتراف بالعامل اليمني كعامل جديد مؤثر في أمن الطاقة، باعتبار أن هذا الأمر سيدفع جهات أخرى إلى اتباع الخطوات اليمنية ذاتها. وفي الوقت الذي تتفاوض واشنطن مع طهران على برنامجها النووي، فإن الذريعة موجودة لإلصاق كل المؤثرات في المجالات الإقليمية السياسية والعسكرية بها، وهو الأمر الذي لم تنجر طهران إليه، ورفضت منذ البداية دمج الملفات على شاكلة غير موضوعية، فاليمن هو الذي يواجه وهو الذي يفاوض، وطهران لا تفاوض نيابة عنه، والوقائع التي يفرضها مسار الأمور مختلفة، وهي بطبيعة الحال تعود إلى العلاقة بين طهران وحلفائها في صنعاء.
اختيار التوقيت الدولي الحالي في التصعيد ضد منشآت النفط السعودية، ولا سيما المصافي ومنشآت التصدير، هو توقيت يمني تهدف صنعاء من خلاله إلى الضغط على الدول المؤثرة في القرار والمتأثرة بأزمة الطاقة من أجل إيقاف الحرب ورفع الحصار، وهذا حق مشروع، بعد أن صمّت آذان المجتمع الدولي لسنوات تعرض فيها اليمن للقصف المستمر والتخريب العبثي.
استغلال الظروف الإقليمية والدولية عبر ترك أثرٍ بالغ في إمدادات الطاقة التي تعد أكثر ما يحتاجه الغرب في هذه الأيام، ولا سيما من الخليج، وإن كان الهدف الأساسي هو رفع الحصار وإيقاف العدوان، دفع اليمن إلى واجهة الأحداث، وجعله يتقدّم خطوات مهمة جداً في رسم معالم المرحلة المقبلة داخلياً، وفرض على الدول المهيمنة والمتحكمة في طبيعة النظام الدولي الالتفات إلى مشكلة كبيرة يجب التعامل معها.
هذه المشكلة الغربية مكّنت صنعاء من إيجاد مكانة لها على الصعيد الدولي، في الوقتِ الذي يبدو العالم مقبلاً على تغيّرات تطال طبيعة النظام القائم فيه. وإذا كانت مصادر الطاقة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية أثّرت من جهة معيّنة في طبيعة العلاقات الدولية وشكلها، فإن أمنها ومن يؤثّر فيه ومن يملك قدرة على ضمانه فرض نفسه كعامل سيترتب عليه شكل العلاقات وشكل المفاوضات وترتيبات النظام الجديد في حال تشكله.
يأتي أثر البالستي اليمني في تحديد موقع اليمن على خارطة النظام الدولي كنتيجة لتأثيره في أمن الطاقة للدول المهيمنة، نتيجة ارتباطهما ببعضهما البعض، ونتيجة ربط اليمن أمنه بأمن الدول المعتدية عليه، لكن يبقى أن أمن الدول المعتدية عليه، وبسبب عوامل سياسية واقتصادية تاريخية يطول شرحها، يرتبط بأمن الغرب سياسياً واقتصادياً.. وهذا تحديداً ما يحاول اليمن الوصول إليه.
نعم، الصاروخ والمسيّرة اليمنيان يستهدفان منشأة النفط السعودية، لكن التأثير يطال ما هو أكبر وأبعد. لماذا؟ لأن المنشأة السعودية وما تصدّره، على صعيد الإنتاج والسعر، ليسا ملكاً للسعودية في النظام الدولي القائم حالياً.
يبدو المشهد لافتاً حقاً. عندما يفكر الغرب في الهروب من ورقة الضغط الروسية، المتمثلة بالطاقة، يصطدم بجدار اليمن، ولسان حاله يقول: "إن بديلكم للطاقة في حرب معنا، فأوقفوه".