"خاصمني كثير من الأصدقاء لمجرد معرفتي بأمل، وحذرني الكثيرون من أصدقائه وأصدقائي من الاستمرار في معرفة هذا الشاعر، خوفاً على سمعتي مع رجلٍ لا سمعة له. سار ورائي رجلان من الجريدة (لا أعرفهما ولا يعرفهما أمل) وراحا يغنيان بصوتٍ عالٍ أغنية عزيز عثمان (الغراب خطف اليمامة). كان الارتباط بأمل يشكّلُ في أذهان الناس علاقةً خطرة، وخاصمتُ العالم من أجله، من أجل نبالته الشديدة، وقلبه النقي". 

هكذا تلخّص الصحفية والناقدة المصرية عبلة الرويني في كتابها الشهير "الجنوبيّ: سيرة أمل دنقل" (دار سعاد الصباح - 1992) ردة فعل محيطها على زواجها المثير من الشاعر المصري أمل دنقل، وتوضح أبعاد موقفها الثابت من هذه العلاقة "الخطرة" و"المضطربة دائماً" كما تصفها في موضع آخر.

الفتاة المغامرة المنحدرة من عائلة بورجوازية اختارت عن سبق إصرار وترصّد في بداية عملها الصحفيِّ في "جريدة الأخبار" المصرية عام 1975، أن تجري لقاء مع الشاعر اليساريّ الحاد المنحدر من عائلة صعيدية فقيرة، والمكروه في أوساط السلطة وإعلامها. 

ربّما لم تكن تدري أن لقاءها الأول بالشاعر الذي لم تكن تعرف ملامحه حتّى، وهي صحفية مبتدئة لم تتجاوز عامها الــ 22 في "مقهى ريش" وسط القاهرة، سيكون بداية رحلة غريبة وطويلة في عالمه، لم تنته بوفاته في مثل هذه الأيام من العام 1983 في الغرفة رقم 8 من المعهد القومي للأورام بالقاهرة بعد صراع مرير مع المرض. 

8 سنوات عاشتها الرويني مع شاعر الرفض والأقنعة، وسنوات طويلة عاشتها بعده تروي قصصه المدهشة وتشهد أثره في أجيال من الشعراء المصريّين والعرب. 

نحتفي في هذا المقال بأمل الإنسان، من خلال مشاهد من حياته الزوجية والإجتماعية معتمدين على شهادات عبلة الرويني القيّمة في هذا الصدد، وبأمل الشاعر من خلالِ أثره، معتمدين على شهادة شاعرين مصريين من هذا الجيل هما محمد عرب صالح ومحمود بلال. 

أمل الإنسان: الجنوبيُّ حتّى النخاع
لاعب شطرنج ماهر، لاعب طاولة عنيد، يمتلك أصابع طويلة ونحيفة كأصابع مقامر محترف. قد تبدو هذه الصّفات ملائمة لشخصيّة صلبة وهادئة، ولكنها بالتأكيد لا تختصر إلا جزءاً طفيفاً من شخصية أمل دنقل الحارّة حرارة الشعراء شديدي الحساسيّة، الواثقة بكلّ ما فيها من التناقضات الظاهريّة، متكئة على مبادئ متينة وأنفة صعيديّة شديدة، وإن كان لنا أن نصفه بعبارات قصيرة فهو حسب تعبير الرويني:  "صعيديٌّ حتى النخاع.. شديد الغيرة في كبرياء.. شديد النقاء.. شديد العناد.. شديد الثأر". 

تزوجت عبلة بالشاعر أمل دنقل (1940 - 1983) بعد حبّ عاصف، بدأ كما ذكرنا من مقابلة صحفيّة أجرتها معه. رجل لافت، مستفزّ وحاد، استعراضيّ يهوى لفت الأنظار دائماً، إن كان من خلال ملابسه الغريبة بألوانها، أو "قدّاحاته" (ولاّعاته) الأنيقة، أو تعليقاته الصريحة الحادّة، أو حتّى مشاجراته العنيفة بالأيدي والكراسي والسُّباب! 

لم يكن أمل تقليديّاً في زواجه أيضاً، اضطر لبيع أرض له في الصعيد من أجل نفقات العرس و"الشبكة". كان هذا حسب الرويني يؤلمهُ حدَّ أن يتجنّب الحديث عنه. خرج بعد الحفل مع عروسه من الصالة، وبدلاً من أن يستقلّا السيارة المزيّنةَ التي خصّصت لنقلهما إلى مخدع الزوجية، أصرَّ على أن يستقلّا سيّارة أجرة، وسط ذهول الحاضرين وغضب والدة العروس!

في الصباح التالي، ودائماً حسب الرويني في كتابها "الجنوبيّ"، خرج أمل من منزل الزوجية ليشتري علبة سجائر، ولم يعد حتّى المساء، حين سألته بغضب أين كان في أول أيام زواجه أجاب بهدوء أنه دعي إلى كأسين في صحّة زواجه، فامتدّ الحوار وضاع الزمن! 

كان يشغله بعد الزواج هاجس أن يؤمّن حياة رغيدة له ولزوجته التي لم تكن معتادة على التشرّد والتيه الشعريّين، فقرّر أن يهاجرا معاً إلى بيروت، حيث كان رئيس تحرير جريدة السفير طلال سلمان قد عرض عليه رئاسة القسم الثقافي فيها، ثمّ ما لبث أن عاد عن رأيه وكتب قصيدته الشهيرة "مقابلة خاصة مع ابن نوح" وضمّنها قراره الجديد: 

يرقدُ الآن تحت بقايا المدينة
وردةً من عطن
بعد أن قال لا للسفينة
وأحبَّ الوطن 

وأهدى القصيدة إلى عبلة الرويني، كأول قصيدة يكتبها إليها رغم أنّه لم يذكرها في القصيدة على الإطلاق، ولكنّها حسب قوله كانت صلبها الأساسيّ، فهي التي أعادت إليه الإحساس قويّاً وجميلاً بالوطن. 

قضى الزوجان حياتهما الزوجية القصيرة، متنقّلين بين شقق مفروشة عديدة في القاهرة، وكان هذا يشعر أمل بالذنب تجاهَ "طفلته المستحيلة" كما يصفها، ولكنّه لم يشكّل إزعاجاً حقيقيّاً لعبلة التي كانت صبيّةً تصغره ب 13 عاماً، "شديدة الانبهار به، شديدة الإعجاب به، إلى حدِّ التمثّل"، وفق تعبيرها. 

عموماً، فقد كانا يقضيان معظم وقتهما معاً خارج المنزل. تعود عبلة من عملها في الجريدة في موعد استيقاظه ظهراً ليحتسيا القهوة معاً ثمَّ يخرجا، كانت معه في كلِّ مكان، وكانا صديقين بقدر ما هما زوجان، وكان يخاف عليها بجزع، ويحبّها بعمق، لكن بأسلوبه الخاص. 

قد يظنُّ ظانٌّ بأنَّ حياة الزوجة كانت بائسة مع كلِّ هذه الفوضى والقلق، ولكنَّ عبلة الرويني تعلّقُ بدفءٍ على هذه العلاقة الفريدة: "كان الزواج هو أول الفرح، بل هو الفرحة الوحيدة في عمر أمل كله - على حدِّ تعبيره - بينما كان أمل هو كل الفرح الذي أعطاه الله لي، وأغدق في عطائه". 

أمل الشاعر: سيّدُ البساطة المدهشة
تبدأ علاقة الشاعر المصريّ الشاب محمود بلال بشعر أمل دنقل في كليّة الآداب، مع كتاب يضمّ محاضرات نقدية لشعره بعنوان "التناص في شعر أمل دنقل". أغواه صاحب "البكاء بين يديّ زرقاء اليمامة" ببساطته وعذوبته ومتانة لغته، فاشترى مجموعة أعماله الشعرية الكاملة في أول معرض للكتاب أقيم في الكليّة. 

حين نقول "أعماله الشعرية الكاملة" فإن التعبير يوحي بمجلّدات ضخمة، والواقع أن حياة أمل القصيرة، ومزاجه العالي في انتقاء ما ينشره من شعر، جعلا أعماله الكاملة كتاباً واحداً متوسط الحجم لا يزيد عن 400 صفحة.

وعن هذا يقول محمود بلال مشيراً إلى أثر دنقل في حركة الشعر العربي: "العجيب أنه أثرٌ لــ 14 عاماً منذ ديوانه الأول حتى رحيله، إلا أنه أثر يعادل عشرات السنين من الإبداع والكتابة"، مضيفاً أن "الأكثر أهمية - في رأيي- أنه لم يتكلف البساطة فوصل إلى الجمهور والعامة، وراعى القصيدة وانشغل بها فأسر النقاد، يسير بها إلى المستقبل منطلقاً من تراثه العربي، مستعيناً بشخصيات التاريخ والتراث مستخدماً التقنيع والرمز استخداماً مدهشاً".

ويؤكّد محمود بلال حضور تجربة دنقل الغنيّة عند كلِّ أبناء هذا الجيل من الشعراء، إن كان من خلال أسلوبه في صناعة الدهشة وتطوير القصيدة العربيّة على مستوى بنائها والقضايا التي تتناولها، أو أبعد من ذلك من خلال قصّةِ كفاحهِ في الحياة كسيرةٍ ملهمةٍ لشعراء وفنّانين كثر.  وعن قصيدة أمل المفضلة لديه يختارُ بلال "الجنوبيّ" وهي آخر قصيدة كتبها على سرير المرض قبل وفاته.

أمّا الشاعر محمد عرب صالح فيتحدّث عن قصيدة "مقابلة خاصة مع ابن نوح" بوصفها "قدمت الوطن على كلِّ شيء وتركت أثراً في شعراء كثر منهم محمود درويش". 

عرب صالح الذي تعرف إلى شعر دنقل في الصف الثالث الثانوي من خلال قصيدته الأشهر "لا تصالح"، يرى أن وصف "شاعر الرفض" الذي عُرف به صاحب "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" ظهر "في الظرف القاسي الذي مر به كل عربي بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967 وما ترتب عليها بعد ذلك من معاهدات وسياسات مختلفة عما كانت عليه، لكن من اللائق والمطابق جداً أن تصفه (شاعراً) فقط. هكذا حتى لو لم يكتب الشعر، فهو بشخصه حالة شعرية فريدة، والشعر يجتاح كل تفاصيل حياته". 

وعمّا يميّزُ أمل عن سواه يقول عرب صالح: "لم يرضَ إلا أن يكون حالة متفردة، يقف مع قصيدته ربما عاماً كاملاً معتنياً بها ثم يقدمها في أجمل حلة، وأزهى طلة، كأنها ابنته في يوم الزفاف، جاذب التراث ليكون ضيفاً عزيزاً على قصيدته فكان، ووقف أمام واقعه الشخصي بخاصة والعربي بعامة فكان مرآته المصقولة".

ويضيف: "هذا البسيط المدهش، أثره يشبه كثيراً نهر النيل وهو يشق قلوب القرى والمدائن، أذكر يوماً كنت أجلس على مقًهى "ليلي زمان" في حي السيدة زينب بالقاهرة، مع صديقي الصحفي أحمد عبد العال الرشيدي، وفجأة أشار إلي أن أنتبه إلى رجلين أحدهما يستمع والآخر يقول من قصيدة " مقابلة خاصة مع ابن نوح"، هذا أثر أمل وربما هذا الأثر هو منتهى ما يرجوه الشاعر". 

في ختام هذه الرحلة، وجرياً على العادة، نترككم مع "الورقة السابعة" من "أوراق أبي نواس" وهي أحد أجمل قصائد أمل دنقل: 

كنتُ في كَرْبلاءْ
قال لي الشيخُ إن الحُسينْ
ماتَ من أجلِ جرعةِ ماءْ!
وتساءلتُ
كيف السيوفُ استباحتْ بني الأكرمينْ
فأجابَ الذي بصَّرتْه السَّماءْ:
إنه الذَّهبُ المتلألىءُ: في كلِّ عينْ.
إن تكُن كلماتُ الحسينْ..
وسُيوفُ الحُسينْ..
وجَلالُ الحُسينْ..
سَقَطَتْ دون أن تُنقذ الحقَّ من ذهبِ الأمراءْ؟
أفتقدرُ أن تنقذ الحقَّ ثرثرةُ الشُّعراء؟
والفراتُ لسانٌ من الدمِ لا يجدُ الشَّفتينْ؟! 

*** 

ماتَ من أجل جرعة ماءْ!
فاسقني يا غُلام.. صباحَ مساء
اسقِني يا غُلام..
علَّني بالمُدام..
أتناسى الدّماءْ!

المصدر: حسن المقداد - الميادين