كشفت العمليتان الإرهابيتان في كنيستَي الإسكندرية وطنطا، أول من أمس، عن بدء مرحلة أكثر تقدّماً في المواجهة المفتوحة بين الدولة المصرية والجماعات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم «داعش»، الذي تمكن من اختراق المنظومة الأمنية، بنقله نشاطه الإرهابي من شبه جزيرة سيناء إلى وادي النيل. ولعلّ ما جرى يفتح الباب أمام تساؤلات وهواجس حول دلالات هذه النقلة النوعية في العنف الإرهابي، واحتمالات إيجاده البيئة الحاضنة في محافظات مصر
طوال السنوات الماضية، ظلّ وادي النيل، من الدلتا إلى الصعيد، في مأمن عن الاختراق «الداعشي»، خلافاً لما هي الحال في شمال سيناء، حيث راحت الجماعات التكفيرية، بتلويناتها المختلفة، من «مجلس شورى المجاهدين» إلى «أنصار بيت المقدس»، تستغل الفراغ الأمني الذي أعقب ثورة «25 يناير»، لفرض معادلتها، إلى أن جاءت لحظة البيعة لتنظيم «داعش»، تحت مسمّى «ولاية سيناء».
وبرغم خطورة الموقف في الجزء الشمالي من سيناء، فإن التقديرات الأمنية لم تذهب باتجاه سيناريوات كارثية، من بينها نجاح جماعات التكفير المرتبطة مباشرة بـ«داعش»، في التسلل إلى «وادي النيل»، لتنفيذ عمليات كبرى، كتلك التي شهدتها مدينتا الإسكندرية وطنطا أول من أمس.
ربما استندت تلك التقديرات الأمنية إلى مقولة كلاسيكية بأن شبه الجزيرة المصرية لا تزال قادرة على تأدية دور السد الاستراتيجي، الذي حمى وادي النيل، في الحروب والغزوات التي تعرضت لها مصر، من الشرق، على امتداد تاريخها، وإسقاط ذلك على الحرب المفتوحة التي تخوضها القوات المسلحة المصرية ضد تكفيريّي «ولاية سيناء»، الجناح المصري لتنظيم أبي بكر البغدادي.
في الظاهر، يبدو هذا الطرح واقعياً، وخصوصاً أن سيناء أدّت دورها، في الحرب على الإرهاب، ودفعت النفيس من دماء أهلها ومعاناتهم، عبر منع تسلل الإرهاب «الداعشي» إلى الضفة الغربية من قناة السويس، إضافة إلى صعوبات جغرافية، تجعل حركة التنقل، من شبه الجزيرة المصرية وإليها، محصورة ببضع نقاط يمكن السيطرة عليها من الناحية الأمنية.
هذه العوامل جعلت منطقة «الوادي» في مأمن، نسبياً، عن العمليات الإرهابية «الداعشية»، لسنوات عدّة. ولا يغيّر في هذا الواقع أن السنوات الماضية، وتحديداً منذ سقوط نظام «الإخوان المسلمين»، شهدت عمليات إرهابية متنقلة بين مختلف محافظات وادي النيل، لكنها ظلت تدور، في معظمها، حول فكرة الثأر السياسي من النظام السياسي الحالي، كما هي الحال بالنسبة إلى ما يسمّى «أجناد مصر» و«حسم» و«العقاب الثوري»... إلى آخر تلك المجموعات التي قد تجوز مقارنتها بـ«الذئاب المنفردة» في أوروبا، لجهة النشوء والتطوّر.
وانطلاقاً من ذلك، كان ممكناً تحديد الجهات التي تقف وراء الكثير من العمليات الإرهابية في مصر ــ «الوادي»، والتي تدور التقديرات بشأنها حول احتمالين، إما أن تكون من تخطيط قيادات جماعة «الإخوان المسلمين»، السجينة/ المتخفية/ المهاجرة؛ أو أنها مجرّد مبادرات فردية من مناصرين للتيار الإسلامي نجحوا، بطريقة أو بأخرى، في إيجاد سبل التنسيق في ما بينهم.
وكان لافتاً أن تلك المجموعات الجديدة سعت إلى المواءمة بين العداء لأجهزة الدولة المصرية من جهة، والحرص على البيئة المجتمعية الحاضنة، والمقصود بذلك، على وجه الخصوص، فئات متديّنة من الشعب المصري، قد تتعاطف مع «الإخوان المسلمين» أو جماعات الإسلام السياسي، وتعارض النظام الحاكم، لكنها لا تستسيغ، مع ذلك، العنف الإرهابي، لاعتبارات مختلفة.
وعلى هذا الأساس، فإنّ تلك التنظيمات العنفية الناشئة حرصت في نشاطها الإرهابي على تحديد بنك أهداف، معظمها مرتبط بأجهزة الدولة المصرية، ولا سيما الأمنية والعسكرية منها، وقد دأبت على إظهار ذلك في مختلف بياناتها، متجنبة، بدرجة أو بأخرى، تنفيذ عمليات إرهابية، من شأنها أن تؤلب بعض الفئات الشعبية، حتى الموالية لها، لما ينطوي عليه ذلك من تبعات سلبية على نشاطها، من الناحيتين السياسية والأمنية، لا بل إن تلك التنظيمات راحت «تتبرأ» و«تدين» عمليات إرهابية أوقعت عدداً كبيراً من الضحايا المدنيين.
عند هذا الحد، كان يمكن التعامل مع العمليات الإرهابية في وادي النيل، انطلاقاً من المقاربة الأمنية المصرية التقليدية، من خلال العمل على لائحة طويلة من الناشطين الإسلاميين، ولا سيما أولئك المتشرّبين بأيديولوجيات العنف، وبالتالي رصدهم، وتوقيفهم، أو حتى تصفيتهم. وبالفعل، فإن تلك المقاربة نجحت في تخفيف العمليات الإرهابية، وإن كانت لم توقفها تماماً.
لكن تفجير الكنيسة البطرسية المحاذية للكاتدرائية المرقسية في القاهرة، في شهر كانون الأول الماضي، كشف عن تحوّل خطير في نشاط جماعات العنف السياسي، إذ كانت تلك المرّة الأولى التي تشهد فيها كنيسة قبطية هجوماً إرهابياً على هذا المستوى، سواء لجهة حجمه، أو تعقيداته، في التخطيط والتنفيذ، الأمر الذي جعل التقديرات تذهب سريعاً، باتجاه فرضية وقوف تنظيم «داعش» خلفه، وهو ما تأكد بالفعل حين تبنى التنظيم التكفيري التفجير ببيان صريح.
هذا الأمر تكرّر أول من أمس على نحو أكثر خطورة، اتخذ شكل هجومين على درجة عالية من التخطيط، التي لم تقتصر على جوانب تقليدية، من قبيل البحث عن سبل لاختراق إجراءات الحماية الأمنية، بل امتدت لتشمل التنسيق بين هجومين كبيرين في يوم واحد، وإشاعة أجواء رعب عابرة لحدود المحافظات، عبر تنفيذ عمليتين في مدينتين (طنطا والإسكندرية)، وبث شائعات بوجود عبوات ناسفة في أماكن أخرى، والمزاوجة في الأهداف بين إلحاق عدد كبير من الضحايا في صفوف المسيحيين من جهة، ومحاولة اغتيال البابا تواضروس الثاني من جهة ثانية.
وإذا كان التبني السريع لهذين الهجومين الإرهابيين من قبل تنظيم «داعش» قد حسم النقاش بشأن الجهة التي تقف خلفهما، فإنه يطرح تساؤلات عدّة حول قدرة التنظيم التكفيري على نقل نشاطه من شبه جزيرة سيناء إلى وادي النيل.
هذا السؤال الأهم، الذي يتوقع أن تشمله التحقيقات الجارية في عمليتَي طنطا والإسكندرية، والتي يفترض منطقياً أن تبحث عن رأس خيط يقودها إلى تحديد فرضية أو أكثر من بين الفرضيات الأربع:
*الأولى، تسلل عناصر «داعشية» من سيناء إلى وادي النيل، وهو ما لمح إليه عدد من الخبراء الأمنيين، وحتى الرئيس عبد الفتاح السيسي، نفسه، حين ربط بين تضييق الخناق على الإرهابيين في سيناء، وعمليتَي طنطا والإسكندرية، وهي فرضية، إن صحّت، قد تعني أن ثمة اختراقاً خطيراً للمنظومة الأمنية المصرية، التي يُفترض أنها قادرة على السيطرة على حركة الانتقال من شبه الجزيرة المصرية وإليها.
*الثانية، ارتباط منفذي التفجيرين بـ«دواعش ليبيا»، وهي احتمالية ضعيفة إذا ما أمعنّا التحليل في تفاصيل العمليتين الإرهابيتين، التي بدا منفذاها على دراية بتفاصيل مهمة، من تحديد ساعة الذروة في قداس الشعانين داخل كنيسة مار مرقس، إلى رصد وجود البابا تواضروس داخل الكاتدرائية المرقسية، فضلاً عن تعاملهما بشكل طبيعي مع إجراءات التأمين.
*وأما الفرضية الثالثة، فتتعلق بتقاطع محتمل ما بين مجموعات العنف «الإخوانية»، و«الدولة الإسلامية»، وهو احتمال يبقى قائماً، في ظل تحوّل ما يمكن أن يكون قد طرأ على طبيعة المجموعات، التي تشهد، على نحو سريع، تطوّراً في تركيبتها (تشير التقديرات الأمنية إلى انتقالها من مجرّد خلايا غير مترابطة، إلى مجموعات ذات بنية عنقودية، قادرة على التواصل والتنسيق من خلال وسائل الاتصال الحديثة)، وفي قدرتها على اختراق المنظومة الأمنية، وهو ما تبدّى في الكثير من العمليات الإرهابية الأخيرة، وربما يكون قرارها قد خرج عن إطاره التقليدي، بحيث باتت قادرة على المغامرة بصرف النظر عن التداعيات السلبية المتوقعة على المستوى السياسي، تماماً كما حدث قبل عقود (الأربعينيات) حين استقل «التنظيم الخاص» التابع لـ«الإخوان» عن المرشد العام.
*وتبقى فرضية أخيرة، ولعلّها الأخطر، قياساً بما سبق، وهي أن يكون تنظيم «داعش» قد بدأ فعلاً في تحضير بيئة مصرية حاضنة، تدور حول رموز «جهادية» ظهرت فجأة، وعلى نحو غير متوقع، وخاصة حين التفّت قبل أشهر حول جثمان الشيخ عمر عبد الرحمن، الزعيم الروحي للجماعة الإسلامية، والذي كان يقضي في الولايات المتحدة عقوبة السجن المؤبد بتهمة التآمر في قضية تفجيرات نيويورك عام 1993.
هذا الظهور المفاجئ يتقاطع مع ظاهرة لافتة للانتباه، لاحظها عدد من الخبراء المتخصصين في شؤون الجماعات الإسلامية، وتتمثل في تفضيل الكثير من القيادات الجهادية المصرية البقاء في مصر، على الانتقال إلى سوريا والعراق.
ولعلّ ثمة تفسيرين لذلك، إما أن إجراءات الأمن نجحت في منع الكثيرين منهم من الهجرة إلى أرض «الخلافة» ــ وهو أمر مستبعد في ظل عجز حتى أجهزة الاستخبارات الغربية عن ذلك ــ وإما أنهم يفضّلون البقاء جيشاً سرياً، لحرب كبرى، يريدها «داعش» أن تكون على أرض مصر... ويمكن أن تكون أحداث أول من أمس اختباراً مبكراً لها!
شبهات حول الانتحاريَّين: مصريان قاتلا في سوريا
ليس من العجب أن تحوم الشبهات بشأن انتحاريَّي طنطا والإسكندرية حول «جهاديَّين» ذهبا للقتال في سوريا، ثم عادا إلى مصر، بانتظار كلمة السر.
في بيان التبني للتفجيرين، اكتفى «داعش» بالكشف عن الاسمين الحركيين لانتحاريي كنيسة مار جرجس (أبو اسحق المصري) والكاتدرائية المرقسية (أبو البراء المصري).
ويُعتقد أن أبو اسحق المصري هو من مواليد عام 1990، في منيا القمح، وهو حاصل على بكالوريوس تجارة، وعمل محاسباً في الكويت لمدة أربعة أشهر، وسافر بعدها إلى تركيا، ثم التحق بالقتال في سوريا، خلال عام 2013، ليعود بعدها إلى سيناء.
أما أبو البراء المصري، فيُعتقد أنه من مواليد عام 1974، في قرية أبو طبل في كفر الشيخ، وهو حاصل على «دبلوم صنايع»، ومتزوج، ولديه 3 أطفال، وقد توجه إلى سوريا في عام 2013، عن طريق لبنان.