«أطويلٌ طريقنا أم يطولُ؟» شطر شعري لأعظم شاعر عرفته حلب (أبو الطيب المتنبي) قاله معبِّراً عن اشتياقٍ يجعل طريقه نحو المدينة أطول مما هو عليه. اليوم، يبدو طريق المدينة إلى ما كانت عليه طويلاً جدّاً، لكنّها تحاول السير فيه. عقبات كثيرة تجعل من «درب الآلام» بلا نهاية وشيكة، وتؤجّل «قيامة حلب»، لكنّ الطريق سينتهي حتماً، فالمستحيل ليس حلبيّاً
حلب | «ما عاد عندي شي فيها والحمد لله بس كل فترة بروح بشم هواها» يقول الرجل الستيني، شريكنا في سيّارة الأجرة التي انطلقت من اللاذقيّة نحو حلب. لا يتوقف أبو عمر عن الضحك بلا تكلّف، يضيف ببشاشة لافتة: «البضاعة انسرقت من زمان، المعمل والبيت ع الأرض (كناية عن التهديم التام) والعيلة تفرقت، مع هيك ما بحسن أعيش إذا مضي شهرين من دون ما أنزل ع حلب يا خاي».
الرجل الذي انتقل من مدينته قبل أربعة أعوام يُخبرنا بلهفة أنّه سيستغل هذه الزيارة للبحث عن بيت يستأجره تمهيداً لعودته وأسرة أحد أبنائه قريباً ليسكن «أم الدني» على حد تعبيره. يقول: «عم نستنى العطلة الصيفية مشان ننقل مدارس الولاد (أحفاده) ونرجع بقى، والله طقت روحنا».
لا يمثّل أبو عمر حالةً فريدة، تتشابه عائلته مع كثير من عائلات حلب التي خرجت منها تحت وطأة الحرب وتوزّعت على محافظات أخرى، قبل أن يضرب معظمها موعداً مع العودة في خلال شهور الصيف المقبل. لا علاقة لهذه النيات بالازدحام الذي يبدو أوضح سمات الطريق بين سلمية وحلب (مروراً بأثريا وخناصر). الازدحام المذكور تُحدثه في الدرجة الأولى سيّارات شحن من مختلف الأشكال والأحجام، ينتظم معظمها في أرتال طويلة تنطلق في الاتجاهين: قدوماً من حلب، وذهاباً في اتجاهها. يمكنك أن تلحظ عدداً كبيراً من ناقلات المشتقّات النفطيّة قادمة عكس اتجاه سيرك، يقول السّائق إنّ عدد أرتال سيارات نقل المحروقات ووتيرة حركتها قد ازدادا بنحو ملحوظ في الأسبوعين الأخيرين. يبدو التفسير المنطقي المرجّح هو عودة الحياة إلى خط «منبج ــ حلب» الكفيل بوصل محافظة الحسكة بمعظم المحافظات السوريّة، لكن لا أحد من المصادر الرسميّة سيزوّدك بمعلومات واضحة في هذا الخصوص.
ستلاحظ أيضاً حركة دؤوبة تقوم بها وُرش متوزعة على امتداد الطريق بين أثريا والسفيرة مُكلّفةٌ زرع «أبراج التوتر العالي» تمهيداً لاجتراح حل كهربائي موعود يُنهي القطيعة بين التيار و«عاصمة الشمال»، لكنّ التفاؤل يبدو ضرباً من المغامرة في ظل فشل حلول سابقة عدّة.
المستحيل ليس حلبيّاً
التجوّل في حلب بكل أحيائها كفيلٌ بوضعك أمام أحاسيس متناقضة ومتداخلة. في الأحياء الغربية ازداد بنحو ملحوظ انتشار الإعلانات التجارية. ما زالت الحركة تحافظ على كثافتها، ويمكنك أن تصادف مجموعات من المقاتلين الرّوس في جولات تسوّق، يرافق كلّ مجموعة مترجمٌ يتحوّل أحياناً إلى سمسار يطالب الباعة بنسبة في مقابل جلب الزبائن الدسمين! ما زال الدّمار هو العنوان الأبرز لأحياء شرق المدينة التي عادت إلى كنف الدولة السوريّة بعد أثمان باهظة، أبناء المدينة يُسلّمون بواقعيةٍ شديدة بأنّ الدمار بات شريكهم، ولا أحد يُغالي في التفاؤل بقلب المشهد بطريقة سحريّة. الحل الأنجع يبدو التعايش مع الأنقاض ومحاولة تسيير عجلة الحياة وسطها.
يعكس شكل الشوارع والطرقات في الأحياء الشرقيّة حجم الجهد الهائل الذي بذله مجلس المدينة في خلال الشهرين الأخيرين، أزيلت سواتر وفُتحت طرقات ورُحِّلت أنقاض، وبات في إمكان السيارات الوصول إلى معظم المناطق والأحياء والتنقل بينها. تتفاوت حركة الناس ما بين حيّ وآخر تبعاً لحجم الدمار، المشهد يبدو سورياليّاً في معظم الشوارع: مبانٍ متهدّمة بالكامل، أخرى دُمِّر بعض طبقاتها، والغسيل على حبال بعض الطبقات، ثالثة متهالكة، ورابعة (أقل من كل ما سبقها) لم تزرها آلة الحرب.
يكتمل المشهد مع ملامح حياة تحاول أن تتلمّس طريقها وسط الخراب: طفل يجرّ عربةً محملة ببراميل مياه، نسوة جلسن على الرصيف بملاءاتهنّ وإلى جوارهنّ أكياس وحقائب، رجال ينهمكون في أعمال تنظيف وإصلاحات بسيطة، مدرسة بسور متهدّم يؤكّد مرافقونا أنّ الطلاب غادروها قبل ساعتين فحسب (مع انتهاء الدوام الرسمي) وسيعودون غداً.
إتاوات وحواجز
في المنطقة الصناعية في الكلاسة ستسمع أصوات مولّد كهربائيّ هنا، وضجيج مصنع هناك. صحيح أن الوتيرة لا تُعادل عُشر ما كانت عليه المنطقة «أيّام الخير»، لكنّ مشهد أحد المصانع المحاط بدمار يفوق الوصف وقد عاد إلى العمل بقرابة ثلاث أرباع طاقته الإنتاجية يختصر الكثير. «من هون بترجع بتعيش حلب» يقول أحد الصناعيين، مشيراً إلى الأضواء المبعثرة حولنا. لكن هذا لا يعني أن الصورة ورديّة كما قد يحلو لبعض باعة الأمل ترويجها، فبالتوازي مع جهود إعادة الحياة إلى العصب الصناعي، ثمّة جهود حثيثة مقابلة تؤدي وظيفة عكسيّة.
«أبناء الحرب» ما زالوا ينشطون بصورة كبيرة لجني ثمارها، انتهاء موجة «التعفيش» التي استعرت إبّان توحيد شطري المدينة لم يُغلق «أبواب الرزق». سرعان ما فتح هؤلاء أبواباً أخرى: فرض إتاوات على بعض المصانع تحت عنوان «حمايتها»، جني «رسوم» في مقابل عبور البضائع للحواجز، و«حقّ معلوم» من المازوت الذي نجح بعض أصحاب المصانع في استجراره بدعمٍ من غرفة الصناعة.
ضحك أحد الصناعيين فيما كان يخبرنا كيف عبرت قبل يومين سياراة محمّلة بجزء من إنتاج مصنعه من دون أن يعترض سبيلها أي «حاجز»، في اليوم التالي عرف أن السبب كان زيارة ميدانية قام بها مسؤول رفيعٌ إلى المنطقة استبقَها «أبناء الحرب» بسحب حواجزهم مؤقّتاً ريثما تنقضي الجولة «على خير».
..وهواجس أمنية
تشكّل «الهواجس الأمنية» أحد أبرز عوامل إحجام جزء كبير من الحلبيين عن استعادة نشاطهم التجاري أو الصناعي في القسم الشرقي من المدينة. يقول فائز لـ«الأخبار» إنّه فكّر طويلاً في إعادة الحياة إلى مخزنين كبيرين يمتلكهما في حي بستان القصر رغم ما ينطوي الأمر عليه من مغامرة تجاريّة، ويضيف: «خيو التجارة ربح وخسارة، بس إشو بيضمن لي ما ينسرقو المحلات بعد ما جهزهم وعبّيهم بضاعة؟».
إجابات مشابهة نسمعها من معظم من تحدّثنا إليهم في هذا السياق، وبينما كنا في انتظار إجابات من محافظ حلب حول هذه الهواجس وغيرها، تواردت أنباء التفجير الإرهابي الذي استهدف قافلة أبناء كفريا والفوعة في ضاحية الراشدين، وطغى الحدث على كل ما سواه. يُقدم هذا التفصيل الجوهري إضاءة مهمّة على جانب آخر من جوانب صعوبات عودة العافية إلى «عاصمة الشمال». تمركز المسلّحين على تخوم المدينة ما زال عامل خطر في نظر أبنائها، وما زالت المجموعات الموجودة في الراشدين والصالات الصناعية في الليرمون وعلى تخوم جمعية الزهراء وغيرها قادرة على استهداف المدينة بقذائف وصواريخ بين وقت وآخر.
للصورة جزء آخر
رغم أن قسماً كبيراً من الحلبيين قد تنفسوا الصعداء بعد عودة المدينة إلى كنف الدولة السورية، غير أن للصورة أجزاءً أخرى لا تكتمل من دونها. وسيكون من العبث الحديث عن حلب من دون التطرّق إلى أبنائها الذين غادروها لأسباب متنوعة، من بينها «الموقف السياسي». يقول كنعان لـ«الأخبار»: «أقيم في تركيا منذ سنوات، وأنا لست خارج مدينتي بسبب موقف سياسي فحسب، كان لتنظيم داعش دور في هروبي من القسم الشرقي للمدينة، قبل أن أنطلق لاحقاً خارج المدينة هرباً من أجهزة الأمن بسبب موقفي من النظام الذي لم يحتمل وجود صوت يقول لا».
بدوره، يقول مروان إنّه خرج إلى تركيّا مضطرّاً، بعد هيمنة المجموعات المسلحة على القسم الشرقي بفترة، ويضيف: «اليوم أتمنى العودة، لكنني لا أجرؤ، لأنني سأكون عرضةً للاعتقال بتهمة ما، وسيعدّون ذهابي إلى تركيا خيانة للوطن وانتماءً إلى الإرهابيين». من تركيا أيضاً يقول عبد الرحمن: «مستقبل علاقتنا بمدينتنا مرتبط للأسف برحيل النظام، فكلّنا متهم وخائن بنظره»، ويضيف: «أي حديث عن مصالحات أو تسويات هو موضع شك لدينا، ونعتبره أكذوبة وفخّاً، والأمثلة بالعشرات ممّن أعرفهم».
وسط المدينة لمّا «يقم» بعد
ما زالت الحركة خفيفة في منطقة باب الفرج التي كانت خطّ تماس. عدد المحال التي استعادت نشاطها التجاري قليل، وعدد السكان الذين يقصدون المنطقة لشراء حاجيتهم أقل. ولا تقتصر الأسباب على كون المنطقة ليست سكنيّة فحسب، ثمة عوامل أخرى من بينها بطء عجلة الحياة في الأحياء الشرقيّة، وتوافر أسواق بديلة في الأحياء الغربيّة استحدثها السكان خلال سنوات الحرب. ويبدو أن مسؤولي المحافظة قد فطنوا إلى هذا التفصيل، ووُضعت خُطط لـ«إصلاح الخلل». يندرج قرار إغلاق الأكشاك المنتشرة بكثافة في معظم الأحياء الغربية ضمن هذا الإطار. وينص القرار على إزالة هذه الأكشاك في موعد أقصاه نهاية شهر حزيران المقبل، ومن بين النتائج المتوخّاة أن يبحث أصحابها عن أسواق بديلة لـ«فرد بضائعهم».
يُشكّل سوق «التلل» الشهير وجهةً محتملةً لكثير من تجار الألبسة والأحذية والبياضات وغيرها. أسعار إيجارات كبيرة تنتظر الراغبين في نقل نشاطهم التجاري إليه، في ظل غياب ضوابط فعليّة لسوق العقارات وإيجاراتها. يقول ملهم لـ«الأخبار» إنه حاول استئجار محل صغير في التّلل، لكنه فوجئ بالمبلغ المطلوب «من مليون ونص بالسنة وطلوع»، ويضيف: «قلنالهم (لأصحاب العقارات) غالي علينا، قالوا شهرين كمان وبيزيد السعر، لحّق حالك من هلأ».
حجم الحركة في السوق الشهير (عمره قرابة 125 عاماً) تتفوق على سواه، تجاوز مرحلة الخواء، وخرج من الحرب بأضرار طفيفة خلّفتها بعض القذائف. تماثله في ذلك ساحة فرحات الشهيرة المتفرّعة منه. في صدر الساحة ما زال تمثال المطران جرمانوس فرحات قائماً، على بعد أمتار من كاتدرائية مار إلياس المارونيّة. فقدت الكاتدرائية أجزاءً من سقفها، لكن النشاط الكنسي لم يتوقّف فيها، واستقبلت قبل أيام البطريرك مار أغناطيوس يوسف الثالث يونان، بطريرك الكنيسة السريانيّة الكاثوليكية.
صلوات الفصح في كل كنائس حلب هذا العام اكتسبت طابع التفاؤل بـ «قيامة حلب» وتعافيها. لكنّ المدينة ما زالت في حاجة إلى ما هو أكثر من الوقت لتصل خواتيم طريق الآلام الذي سارت فيه، ونال كل أبنائها بلا استثناء نصيبهم منه، وإن بنسبٍ متفاوتة.
أفكار ومقترحات
يقدّم عدد من أبناء المدينة أفكاراً قد تفيد في تنشيط الحركة في الأحياء الشرقية كما في وسط المدينة. يقول الصحافي فراس رحمو: «يجب التركيز على المنشآت الخدمية الأساسية وعلى رأسها الأفران»، ويضيف: «نُقل النازحون من المدينة الجامعيّة إلى مدينة هنانو قبل فترة، لكنّ ذلك لم يترافق مع افتتاح مخبز على الأقل». بدوره، المحامي علاء السيد، المواكب لمعظم الملفات الخدمية في المدينة، يقول: «يُمكن إعادة فتح سوق الخُضر في باب جنين، ونقله من موقعه الحالي خلف المالية (في حيّ الجميلية)، ما يعني عودة الناس إلى ارتياد وسط المدينة». يشير السيد أيضاً إلى سوق الهال القديم الموجود في وسط المدينة، إذ «كان في السابق (قبل الحرب) مصدر ازدحام قاتل، وكانت المطالبة بنقله خارج المدينة أمراً حيوياً. لكن الوضع مختلف اليوم، ولا بأس في إعادة تأهيله وتفعيله بدلاً من سوق الهال الحالي القريب من خطوط التماس على أطراف مشروع 3000 شقة (في حي الحمدانيّة)». يتحسّر السيّد على ترحيل الأنقاض من معبر بستان القصر الشهير بسرعة كبيرة وتغيير مظهره الذي ساد طوال سنوات الحرب. المعبر الشهير الذي قسم المدينة إلى شطرين تبادلا الحصار بين فترة وأخرى، وكانت رحلة عبوره بمثابة موعد دائم مع الموت برصاصة قناص، تحوّل اليوم إلى مجرّد شارع تعبره السيارات والمارّة على عجل. يقول: «كان الأجدر إبقاء المعبر رمزاً لحقبة سوداء من تاريخ المدينة، المعبر رمزٌ للتقسيم وللعودة وما أشبهه بجدار برلين».
«في انتظار البدَل»
من يعرف حلب جيّداً، فسيستغرب سمتين طارئتين عليها: ضعف القوة الشرائيّة، ونقص اليد العاملة فيها. سنوات الحرب استنزفت الحلبيين بمختلف فئاتهم، الركود الاقتصادي والخسائر المباشرة ما بين دمار وسرقة ونهب ودفع فِدى وهروب عدد كبير من رؤوس الأموال، كلها عوامل أفقدت حلب كميات هائلة من السيولة النقديّة.
لكن الرأي السائد عند معظم الحلبيين مفادُه: «يخلونا نعرف نشتغل ونحن منعوّض كل شي». لا يحمل هذا الرأي شيئاً من المغالاة، فالحيوية التي يتسم بها الشارع الحلبي تغنيه عن المقارنة بسواه، بشرط توافر الظروف المناسبة.
يقول فائز: «في خلال الحرب كنّا نقول: قد لا يكون هناك حلبي يعمل في مهنته الأساسية، لكن ليس هناك حلبي لا يعمل». اليوم ستجد نماذج كثيرة من الحلبيين يعملون في مجالين مختلفين. مصعب، على سبيل المثال، كان قد افتتح قبل ثلاثة أعوام «بسطة» لبيع القطنيات والأواني المنزلية معاً، بعدما خرج مصنع العائلة عن الخدمة، بمرور الوقت تحوّلت البسطة إلى محل. اليوم عاد مصنع العائلة إلى إنتاج الأقمشة، وصار الرجل يقسم وقته إلى قسمين: نصفٌ للمصنع، ونصف للمحل. يقول: «طبعاً ما رح سكّر المحل، لازم نشتغل كتير لنعوض اللي راح، وما بقدر أترك الشغل في المعمل لأنو ما عم نلاقي عمال».
من بين العقبات التي تصطدم بها حيوية حلب يبرز نقص اليد العاملة. ويعود ذلك إلى وجود عدد كبير من عائلات المدينة خارجها إلى اليوم، فضلاً عن عامل أساسي، هو تواري جزء كبير من شريحة الشباب (سواء عبر لزوم منازلهم داخل المدينة، أو الهروب خارجها) بسبب خوفهم من التجنيد بقسميه: الأساسي والخدمة الاحتياطية. ويطرح معظم من تحدثت إليهم «الأخبار» في هذا الشأن آراء تتقاطع على نقطة واحدة: «الاقتصاد جزء مهم من المعركة، وحلب قادرة على النهوض به، فليفتحوا الباب أمام دفع بدلٍ مالي داخلي وسندفعه وننطلق إلى العمل بلا هواجس».