أهوال شاقة مرّ بها أهالي كفريا والفوعة الخارجين من وجع الحصار إلى حضن الدولة المفتقد. فَقدُ الأرض التي صمدوا فيها طويلاً، والتفجير الذي استهدفهم في حي الراشدين في حلب، وفوضى استقبالهم في مراكز الإيواء بين حلب وحمص واللاذقية، زادت من ألمهم وحنينهم إلى بلداتهم
تغريبة جديدة شهدتها الأراضي السورية خلال الأيام الفائتة، بخروج أعداد من أبناء بلدتَي كفريا والفوعة الإدلبيتين من منازلهم، تاركين مزارعهم وأشجار زيتونهم، التي لطالما عمّ إنتاجها على مدن سوريا وبلداتها.
خرجوا يحملون معهم ذكريات قديمة عن أيام الخير والغلال الوفيرة وحسن الجوار، تلتها كوابيس أيام الحرب والصواريخ والحصار، وسط تحوّل علاقات الجيرة إلى اقتتال وتناحر. بقي الطبيب علي المصطفى مدير مشفى كفريا، مع قلة من أفراد الفريق الطبي وبعض الأهالي واللجان الشعبية المدافعة عن القريتين. يقول الطبيب إن «الوضع موحش. عددنا بات قليلاً والعدو من كل الجهات، ونخشى عدم التزامهم بالهدنة أيضاً». ويجيب عن سؤال حول موعد خروجه المتوقع: «أنا آخر شخص يخرج من كفريا».
يقول الطبيب المختصّ في الجراحة العامة، والذي اضطر إلى العمل في جميع الاختصاصات خلال الحصار، إن "5 أطباء فقط بقوا من كادر المشفى الطبي. وكان لدينا مشفى مجهّز ويراعي أصول التعقيم، غير أن الصواريخ باتت تصل إلى غرفة العمليات، ما اضطرنا إلى نقل معداتنا والتواجد في غرفة تحت الأرض واستخدامها كمشفى ميداني». لا ينكر الرجل الصبور خيبة أمله في النهاية الحزينة، ويشرح بالقول: «كنا موعودين بقدوم الجيش والحلفاء إلينا. إنما لا بديل في النهاية عن الرحيل».
«لو أحمل معي مكتبتي...»
يبدو واضحاً تعلق المغادرين بأرضهم، التي كما لو أنها شاركت في لفظ المهاجمين مع أبنائها. غير أن الوضع الاقتصادي الخانق أسهم نهايةً في قبولهم بالتسوية. ووفق الطبيب المصطفى، فقد تعذر العمل في الأرض، بعد استشهاد كثيرين أثناء جنيهم موسم الزيتون. ويشرح أن «الأمم المتحدة والهلال الأحمر لم يكونوا منصفين في إدخال المساعدات، بل كان تحيّزهم واضحاً لمنطقتي مضايا والزبداني». ويتابع: «طالبت بمواد تخدير وحقن لوقف النزف أكثر من 50 مرة من دون جدوى. وكان البديل التهريب وبأغلى الأسعار"، مضيفاً أن "الوضع الطبي الآن أفضل، بعدما خرج المرضى والمصابون». يبدي الطبيب رغبة بإخراج سيارته ليحمل فيها مكتبته وبعض معداته الطبية، غير أن ذلك ممنوع. فيقول: «سأحمل معي صوراً عائلية عمرها أكثر من 30 سنة، وبعض الوثائق وجلاءات الأولاد (نتائج مدرسية). ورغم استحالة العودة يوماً، إنما لن أفقد الأمل أبداً».
800 مفقود في تركيا!
يختلف الإيمان بالعودة إلى البلدتين من شخص إلى آخر. ابن الفوعة الممرض أحمد اليوسف، الذي وصل إلى اللاذقية من مركز جبرين في ريف حلب، يرى استحالة العودة في المدى المنظور. ويعي أن وداعه للفوعة كان الأخير. سوف يحاول الرجل الاستقرار في المدينة الساحلية وطيّ صفحة الوجع والمعاناة، وحضن طفله الذي غاب عنه في عمر العشرين يوماً، ليراه اليوم وقد بلغ سنتين وشهرين. ويقول عن تفجير الراشدين: «أصابنا الارتباك. لم نفهم، هل أضحينا أسرى؟ وماذا سيكون مصيرنا؟... كان هناك حرش قريب من مكان التفجير، ومعظم الناس هربت للاحتماء فيه، ما جعل (أحرار الشام) يضربون طوقاً حولنا بعد شائعات عن وجود انتحاريين إضافيين، قبل أن نعود إلى الباصات». ووفق اليوسف، قامت عدة سيارات إسعاف تركية بنقل أعداد من الجرحى، ليعلم لاحقاً بنقلهم إلى مشاف عدة، أحدها داخل الأراضي التركية. ويقول إن عدد المفقودين والمتوقع وجودهم في تركيا يقدر بـ 800 شخص، اطمأن، أول من أمس، إلى وصول 120 جريحاً منهم إلى حلب، إضافة إلى جثامين لـ 12 شهيداً. فيما يقدر عدد الواصلين إلى اللاذقية بأكثر من 300 شخص.
ويبقى لدى نسرين حاج حسن، في غرفتها الصغيرة في وحدات حسياء المؤقتة، تساؤلات لا إجابات عنها. المرأة التي عاشت تغريبتها الثانية، بعدما هجرت بيتها الأول في إدلب، لتترك أرضها وبيت عائلتها في الفوعة، انتقلت المرأة الحامل إلى حسياء مع طفلاتها الثلاث، فيما بقي زوجها في الفوعة واستشهد عدد من أقاربها في تفجير الراشدين. تقول المرأة بحسرة: «4 أيام من التشرد في جبرين و3 أيام انتظار في الراشدين، إضافة إلى يومين في حسياء. العودة إلى القرية أهون... السنة كلنا زرعنا أراضينا رغم القنص والصواريخ. من سيجنيها؟».
ما قل ودل
قال محافظ حمص طلال البرازي لـ«الأخبار» تعليقاً على الصور التي انتشرت عن الظروف غير الإنسانية التي يعيشها من خرج من البلدتين إن سبب الفوضى هو عدم رغبة أيّ من الواصلين إلى مركز جبرين في حلب، بالبقاء، ما أدى إلى إرسال أعداد فائضة عن استيعاب الوحدات السكنية المجهزة. وعن الحلول الإسعافية، لفت إلى سرعة تأمين إرسال 80 عائلة إلى اللاذقية وريف دمشق، لتبقى 35 عائلة من دون مأوى، ما اضطر المحافظة إلى تأمينهم في مدرسة كمركز مؤقت. ووعد بتأمين هؤلاء في مساكن خاصة خلال 48 ساعة.