ليلة الخميس في جادة الشانزليزيه الشهيرة في باريس، دعا الدواعش أنفسهم إلى الانتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة. وككل مرّة، حيثما نجد دعساتهم الهمجيّة الآثمة، يكن الخراب. خراب يدفع ثمنه أوّلاً العرب والمسلمون، من جرّاء العنف التوتاليتاري التكفيري المباشر في بلداننا أولاً، وبفعل ارتفاع التشدد والقمع وقوانين الاستثناء في كل بلد يخصّونه بمآثرهم الإجراميّة.

لكن ما يهمّنا على وجه الخصوص، في سياق الانتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة، هو ردّ الفعل الجماهيري: إذ لا يخفى على أحد أن تفاقم حدّة التوتّر والخوف والذعر لدى الفرنسيين، كأي شعب آخر، يدفع جزءاً مقلقاً منهم إلى التطرّف والعنصريّة والرؤيا الاختزاليّة للواقع. طبعاً، يتناسى معظم المعلّقين والمحللين والسياسيين وصنّاع المزاج العام، أن للسياسات الفرنسية المتعاقبة على المستويين الداخلي والخارجي، ولحكومات عهد الرئيس الآفل فرنسوا هولاند، تحديداً، اليد الطولى في تغذية الإرهاب ونموّه وتمكّنه: لقد عملت على توظيفه وتأطيره واستعماله مباشرة، وتواصلت بل توطدت تحالفاتها الاستراتيجيّة مع رعاته، وفي أفضل الحالات، تغاضت عنه أو هيّأت له أرضيّة خصبة في الضواحي والهوامش المنسية. وهذا المسخ، كلّما ازدادت جرائمه باسم «الإسلام»، بفعل وعي طالع من الأقبية المتخثرة، تسبّب بمزيد من أبلسة الإسلام والمسلمين في أوروبا. فيصبح كل «إنجازه» إعطاء الذرائع لمن يريدون استغلال الفقراء وإقصاءهم، باسم «العلمانيّة»! هكذا يلجأ المواطنون «المذعورون» إلى الخيارات المتطرّفة والاقصائيّة، ظنّاً منهم أن فيها حمايتهم وخلاصهم. ومارين لوبن، زعيمة اليمين العنصري التي تجسّد تلك الخيارات خير تجسيد، قد تحتلّ المرتبة الأولى بعدد الأصوات، في الدورة الأولى هذا الأحد. وبنسبة أقلّ قد يستفيد فرنسوا فيّون من رصاصات المعتوه الدموي الذي أفلت رشاشه في الشانزليزيه، فمرشّح اليمين يحاول أن يلعب بدوره على الخوف، ويقترح الحلول الأمنيّة المقلقة من نواحٍ قانونيّة وأخلاقيّة وإنسانيّة عدّة.
باختصار، لم يكن ينقص إلا العنف الإرهابي المرتبط بمنطقتنا التي حوّلها الاستعمار الغربي مسرحاً للخراب والانحطاط والموت، كي تزداد الأمور تعقيداً، عشيّة الدورة الأولى من انتخابات تبدو الأغرب في تاريخ الجمهوريّة الخامسة، حسب المراقبين والمحللين. فالمعادلات التي ألفناها لم تعد على حالها: لا سلوك الناخبين هو نفسه، ولا حركة الرأي العام (أقل من ربع الناخبين لم يحسم قراره بعد)، ولا توازن القوى، ولا تركيب التيارات السياسيّة كما عرفناها، وبالتالي خطوط التماس التقليديّة بين «يمين» و«يسار»، ولا كيفيّة تجسّد الرفض المتزايد لـ «الاستابليشمنت» وفقدان الثقة بالنخب والإعلام والأحزاب التقليديّة. وها نحن نصل إلى الساعة الصفر التي ستحدد مصير الفرنسيين ومستوى حياتهم، وقوّة اقتصادهم، وموقعهم من أوروبا، وسياساتهم الخارجيّة التي تعنينا مباشرة، من دون القدرة على تقديم توقعات حاسمة لنتائج هذه المرحلة. إذا أخذنا بهوامش الخطأ التي تستبطنها الإحصاءات والاستطلاعات، سنجد أن ثلاثة رجال وامرأة، من أصل أحد عشر مرشحاً، يقفون حول الحلبة، مع فرص متساوية لدخول الجولة الثانية. آخر الإحصاءات تضع مانويل ماكرون في المقدمة مع 23 في المئة من الأصوات المحتملة، تليه مارين لوبن (22٪)، ثم فرنسوا فيّون (21٪)، فجان-لوك ميلانشون (18٪). علينا طبعاً أن نحسب حساب المترددين، وهم ربع الناخبين؟ هل يستفزّهم الاعتداء الإرهابي الأخير، أم يبقيهم في منازلهم؟
الآن ربّما باتت لوبن، بخطابها المتشدد، تضمن حضورها يوم 8 أيّار (مايو) المقبل، كأحد متبارزَيِ الجولة الثانية. وهي لم تفوّت بالأمس فرصة التذكير ببنود برنامجها الخطير: من طرد فوري للأشخاص المصنفين «في منتهى الخطورة» من دون عودة إلى القضاء، إلى سحب الجنسية الفرنسية من المتهمين بأعمال إرهابيّة ممن يحملون جنسيّة ثانية… في الحالة هذه من سيقف في مواجهتها؟ بعد اعتداء الشانزليزيه الذي أودى بحياة شرطي وجرح آخرين، هل استعاد فيّون، مرشّح اليمين الليبرالي القاسي، وصاحب «الخطاب الأمني الصارم في مواجهة الإرهاب»، حظوظاً كان قد خسرها مع فضائح الفساد؟ أم بالعكس، سيستقطب ماكرون أصوات اليمين الخائب، ويضيف إليه أصواتاً «يساريّة» ترفض المغالاة الأمنيّة، وتستسلم لغواية «الاعتدال» المزعوم لممثّل اليمين الليبرالي المائع على الطريقة «الاشتراكيّة»؟ يبقى المنافس الرابع الذي صعد نجمه في الإحصاءات، وأدهش الجميع في خلال الأسابيع الأخيرة: إنّه ميلانشون الذي يمكن اعتباره مفاجأة هذه الانتخابات، ولعلّه ما زال قادراً على خلق المفاجآت. لم يكن أحد يتوقّع له هذا الصعود، بشكل موازٍ لانهيار بونوا هامون مرشّح الحزب الاشتراكي. وقد تواطأت رموز «الإعلام المهيمن» (أو «الرسمي» لم لا؟ فبدلاً من النظام الاستبدادي، هناك نظام الفكر الواحد والهيمنة الأوليغارشيّة) على تسخيف صعوده: فهو تارةً «الطوباوي الرومانسي الذي يغري بشعاراته الشباب، لكنّه عاجز عن الحكم»، وطوراً «نصير التوتاليتاريّات» من كاسترو إلى مادورو. لكن الجميع يعترف به خطيباً ماهراً، وزعيماً لمواقع التواصل الاجتماعي بعدما ربح معركة النيوميديا.
في الحقيقة، فإن ميلانشون (صاحب المواقف المشرّفة من قضايانا: من الاحتلال الصهيوني لفلسطين، إلى الحلف الغربي - الإسلاموي وحربه على سوريا واليمن)، يمثّل صحوة اليسار الفرنسي، بعد طول ضياع وتفتت وتزوير. وبعدما أُجهِضت المشاريع والأفكار والخيارات التي تمثّل النهج اليساري في السياسة والاقتصاد، على يد حزب اشتراكي خدع الرأي العام بانحرافه اليميني والليبرالي، فإذا به اليوم الخاسر الأكبر. خطر «الانحراف»، تحت لواء «السوسيو - ديموقراطيّة»، ليس جديداً طبعاً منذ «مؤتمر إبيناي» (1971)، لكن المسافة بين العملاق فرنسوا ميتران والقزم فرنسوا هولاند تُجسِّد رحلة الانهيار. اليوم بقي للمرشّح الاشتراكي هامون (وقد رشّحته الأجنحة «اليساريّة» داخل الحزب) قرابة ٨ في المئة من الأصوات المحتملة، بعدما تمخّض حزب هولاند، رجل كل الكوارث والإخفاقات والتنازلات، عن مسخ ليبرالي هو ماكرون الذي انشقّ عن عرّابه الاشتراكي، آخذاً معه جزءاً أساسيّاً من مقدرات الحزب: من قيادات وكوادر وقواعد، وممثلين برلمانيين وبلديين ووزراء وشخصيات وأقطاب… وتجدر الإشارة إلى أن ماكرون، وزير الاقتصاد السابق عند هولاند، هذا المصرفي الشاب الوسيم والباسم والفارغ كبرنامجه، أصبح الطفل المدلل لوسائل الإعلام المهيمنة التي يملكها بعض أشرس ممثلي الرأسماليّة الفرنسيّة.
هل يفعلها جان - لوك ميلانشون، ويصل إلى الدورة الثانية، في مواجهة أحد مرشحي اليمين: الفاشي أو الليبرالي أو الإصلاحي، فاتحاً الباب أمام فرنسا أكثر عدالة وتوازناً وثقة… وحاملاً مشروع أوروبا أخرى، اجتماعيّة وثقافيّة، أساسها حقوق الناس قبل مصلحة الشركات والرساميل؟ هل يعيد الاعتبار إلى اليسار الأوروبي البديل، إلى جانب «سيريزا» اليوناني و«بوديموس» الإسباني… ضد ديكتاتوريّة السوق والشركات المتعددة الجنسيات والبنك المركزي الأوروبي؟ حتى لو لم يتحقق ذلك، فقد أعلن منذ الآن سقوط اليسار المتخاذل، على طريقة فالس وهولاند وماكرون، ونجح في خلال هذه المعركة الانتخابية في استقطاب الشباب والشعب وجزء من النخب القادرة على إحياء فرنسا العدالة والتنوير والقيم الجمهوريّة وحقوق الإنسان. هذا الإنجاز قد تكون له ترجمته في الانتخابات النيابيّة المقبلة، وفي إعادة تشكّل اليسار الفرنسي، ضمن مشهد سياسي جديد أكثر وضوحاً، تخلّص من أصنامه القديمة. عيننا كعرب على هذه المعركة التي يتقرر فيها بعضٌ من مصيرنا أيضاً. فنحن نتوق إلى فرنسا تكون حليفة الشعوب العربيّة لا متواطئة مع طغاتهم وجلاديهم. فرنسا دولة لها مكانة خاصة بالنسبة إلى كل هؤلاء الذين كلفتهم غالياً سياسات الاشتراكيين المتهوّرة والرعناء، بقيادة فرنسوا هولاند سجّان جورج إبراهيم عبدالله، حائز سعفة الرئيس الأكثر بؤساً في تاريخ فرنسا منذ الحرب الثانية.

المصدر: بيار أبي صعب - الأخبار