«السيد ساندس أدين كمجرم، وهو اختار إنهاء حياته. حق الاختيار هذا لم تمنحه المنظمة التي ينتمي إليها لكثير من ضحاياها».
رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، مارغريت تاتشر
باستثناء الإضرابات الشهيرة التي خاضها مناضلو الجيش الجمهوري الإيرلندي على مدى عقود كفاحهم ضد الاحتلال البريطاني، وآخرها الإضراب الملحمي عام 1981 الذي امتد 73 يوماً واستشهد فيه جوعاً 10 أسرى، على رأسهم القيادي الصلب بوب ساندس، لم تبلغ أيٌّ من حركات المقاومة في التاريخ الحديث الحد الذي بلغته المقاومة الفلسطينية في قدرتها على استخدام الإضراب عن الطعام وسيلةً نضالية لانتزاع الحقوق داخل معتقلات العدو.
يطيب لإسرائيل أن تتبجّح بالظروف المعيشية «المتطابقة مع المعايير الدولية» التي توفرها للأسرى الفلسطينيين القابعين في سجونها، بل تكاد تمنّ عليهم بإنسانيتها الفائضة التي تتيح لهم هذا المستوى من «الرفاهية» في شروط الحياة داخل المعتقلات، فيما كان أقل ما يستحقونه، بوصفهم «إرهابيين قتلة»، الإعدام أو أن يكونوا أحياءً في منازل الأموات.
وتتناسى إسرائيل بالطبع ــ في خضم وعظها الحقوقي ــ الصيرورة التاريخية التي أنتجت الوضع الراهن للأسرى الفلسطينيين، والتي امتدت خمسة عقود من الفعل النضالي اليومي المتراكم. تتناسى مثلاً أن هؤلاء اضطروا إلى أن يخوضوا ــ بالمئات، وأحياناً بالآلاف ــ وفي أكثر من عشرين محطة زمنية، إضراباتٍ مفتوحة عن الطعام لكي ينتزعوا «الحق» في عدم مخاطبة السجان بعبارة «سيدي»، أو إشعال سيجارته حين يبدي الرغبة في ذلك، أو الاحتجاج على إجبارهم على الخروج عراة من زنزاناتهم للاستحمام، أو على إلزامهم بالجلوس بوضعية القرفصاء وإحناء الرأس أثناء قيام السجّانين بإجراء العدّ اليومي أو رفض إجبارهم على العمل بالسخرة في ورشٍ إنتاجية لمصلحة الجيش الإسرائيلي وغير ذلك. وفي السياق، تحرص إسرائيل على عدم «نبش» ماضٍ كانت فيه إدارات سجونها تفرض على الأسرى الفلسطينيين البقاء حليقي الرؤوس طوال الوقت، وتعاقِب بالعزل الانفرادي من يُضبطُ معه منهم قلمٌ أو ورقة؛ ماضٍ (سجن نفحة، تموز 1980) أضرب الأسرى فيه 33 يوماً عن الطعام (استشهد أسيران أثناء الإضراب) لانتزاع مطالب من نوع توفير أسرّة للنوم عليها (وقد كان الأسرى حينذاك ينامون على الأرض)، توسيع مساحات الزنازين وتحسين التهوئة من خلال استبدال الجزء العلوي من باب الزنزانة الصاجي المغلق بشبك حديدي. والرقعة تضيق بالطبع عن التطرق إلى ظروف الطبابة الكارثية التي كانت (ولا تزال) قائمة داخل السجون، وشؤون أخرى تتعلق بالطعام والازدحام والإنارة وزيارات الأهل والممارسات القمعية المختلفة. لكن الثابتة شبه الوحيدة على امتداد هذا التاريخ المضمّخ بالدم والجوع والقهر والمعاناة هو أن كل إنجاز أو «امتيازٍ» تنعّم به الأسرى الفلسطينيون داخل معتقلات الاحتلال إنما تحصّل بأثمان عينية دفعوها دونما تردد، ولم تكن بحالٍ نتيجة التفضّل الإنساني الإسرائيلي أو حرص تل أبيب على التزام المعايير الدولية للسجون.
إن وعي هذه الحقائق التاريخية يوضح الإطار الموضوعي لمواقف إسرائيلية طفت مؤخراً في سياق التعليق على الإضراب الحالي للأسرى الفلسطينيين. بعض هذه المواقف دعا مثلاً إلى تطبيق عقوبة الإعدام بحق الأسرى، بوصفها «الحل الوحيد» لمشكلتهم (وزير الاستخبارات يعقوب كاتس) أو إلى اقتراح انتهاج الأسلوب «التاتشري» في التعامل مع الإضراب (وزير الأمن أفيغدور ليبرمان)، في إشارة إلى ترك المضربين يموتون جوعاً. وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، تجدر الإشارة إلى أن مارغريت تاتشر فعلت ذلك بحق 23 معتقلاً إيرلندياً (قضى منهم 10 أثناء الإضراب) تلخّصت مطالبهم حينها بـ«المطالب الخمسة» الشهيرة: الحق في عدم ارتداء الزيّ الموحّد للسجين، الحق في عدم العمل لمصلحة سلطات السجون، الحق في اختلاط الأسرى بعضهم مع بعض وفي تنظيم أنشطة ثقافية وترفيهية، الحق في زيارة أهل أسبوعية واستعادة المكتسبات التي انتزعت أثناء الإضراب.
وليبرمان وأضرابه يطالبون بالموت جوعاً لمئات من الأسرى يضعون أنفسهم على حافة الموت للحصول، في القرن الحادي والعشرين، على: هاتف عمومي مراقب للتواصل مع الأهل، زيارة للأهل مرة كل أسبوعين، تحسين العلاج الطبي، معاملة إنسانية عند النقل بين السجون، مراحيض للعائلات من النساء والأطفال الذين يأتون لزيارة ذويهم، فرصة الانتساب إلى الجامعة المفتوحة، وقف الاعتقالات الإدارية، وتحسين ظروف التهوئة في السجون التي تختنق بنزلائها.
بيد أن التحدي الرئيس للإضراب الحالي لا يكمن فقط في حفلة المزايدات السوداء التي يتنافس عليها وزراء أكثر حكومات إسرائيل تطرفاً لكسره وإجهاضه، بل في البيئة السياسية التي من المفترض أن تكون «حاضنة» لهذا الإضراب ومنصةً أساسية للرهان على إنجاحه. يبدأ ذلك من الوضع العربي العام المشغول باستحقاقاتٍ كبرى يصعب على قضية الأسرى مزاحمتها على صدارة الاهتمام السياسي والتغطية الإعلامية، ولا ينتهي بالمقاربة الباردة للسلطة الفلسطينية تجاهه، وكذلك الموقف السلبي من حركة حماس على وجه الخصوص، بوصفها الثقل الوازن دخل المعتقلات. وإذا كان مفهوماً بالمعنى السياسي (وهو ليس كذلك بالمعنى الأخلاقي) الندّية الإقصائية التي يتعاطى بها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، (الذي «نسي» قضية الأسرى إبان مفاوضات أوسلو) إزاء زعيم الإضراب في السجون، مروان البرغوثي، بوصفه منافساً قوياً له على الزعامة الفلسطينية والفتحاوية، ما يجعل تعاطفه مع الإضراب يقتصر على ما يشبه الضريبة الكلامية، فإن الحال بالنسبة إلى حركة حماس تبقى عصيّة على الفهم. فالإضراب، قبل كل شيء، يشكل فرصة استثنائية لتعويم قضية الأسرى التي ترى حماس أنها «أم الصبي» فيها، فيما المطالب المنادى بها فيه تخصّ جميع الأسرى دون استثناء، وبعضها، كما هو معلوم، يتعلق بإنجازات سابقة كان جرى سحب بعضها من قبل مصلحة سجون العدو كردٍّ عقابيّ على عملياتٍ قامت بها حركة حماس في الخارج. إلا أن تكون الحركة تتبنّى مزاعم التسييس التي اشتغلت عليها إسرائيل منذ اليوم الأول للإضراب، واضعة إياه في سياق التنافس الداخلي على السلطة بين البرغوثي وعباس، علماً بأن سياق الإضراب منذ اللحظة الأولى يضعه بشكل صرف في خانة المطلبي، وعلماً أيضاً بأن البرغوثي دخل السجن مقاوِماً وكأحد أبرز قادة انتفاضة الأقصى في الضفة الغربية.
ما بين مطرقة إسرائيل وسندان سلطة محمود عباس، يجدر بجميع الفصائل الفلسطينية أن تعي أن الإضراب يبقى فعل مقاومة في وجه الاحتلال، وأن من الممنوع خذلانه بسبب حساسيات عابرة ليست من طبيعة القضية. للمرء أن يتخيّل الحجم الزلزالي للحدث لو أن جميع فصائل المقاومة أعلنت اليوم التحاقها بالإضراب.