عندما كانت فنزويلا باحة سهلة ومفتوحة للشركات الأميركية الكبرى قبل عهد هوغو تشافيز، كان الخطاب الأميركي يصف البلد بـ«جنّة أميركا اللاتينية». حينها، كانت أبرز صقور الاقتصاد الرأسمالي الأميركي تسرح وتمرح في فنزويلا، مثل شركة «إكسون موبيل» و«جنرال موتورز» و«بروكتر إند غامبل» و«بيبسي» و«كوكا كولا».

لم يكترث الأميركيون وأدوات تطبيلهم السياسية والإعلامية حينها للفقر المستشري في البلد، ولا للفساد الذي ينخر الطبقة السياسية الحاكمة، ولا لغياب الخدمات العامة، ولا لنهب أموال الدولة من قبل مجموعة صغيرة من المتمولين والسياسيين المقرّبين من لوبيات الكونغرس الأميركي والسلطة في واشنطن.
«كلّ شيء كان على ما يرام» في فنزويلا، ما دام صاحب أكبر احتياطي نفط في العالم يخضع للسياسة الأميركية، وما دامت ثروات أرضه المنتجة بيد أصحاب المصانع الأميركيين واليد العاملة الرخيصة الأجر رهينة لمشغّليها، غير قادرة على رفع صوتها للمطالبة بحقوقها. «أُحَيّي ديموقراطيتكم القوية واقتصادكم الذي ينمو بعد تضحيات كبيرة»، قال الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، عام ١٩٩٧، في كاراكاس محطّته الأولى في أول زيارة له للقارة اللاتينية. فنزويلا كانت حينها مصدِّر النفط الأوّل للولايات المتحدة متخطية المملكة السعودية.

لكن عندما جاء تشافيز عام ١٩٩٩ وقرر استرجاع أموال الدولة المنهوبة من خلال تأميم بعض الشركات وتوظيف عائدات ثروات البلاد، ولا سيما النفطية، في خدمات الطبابة والتعليم والضمان الاجتماعي وتوزيع الأراضي على الفقراء وتحصيل حقوق العمّال، «لم تعد فنزويلا على ما يرام»، بنظر الأميركيين. إذ لم يعد النظام الفنزويلي مرهوناً للسياسة الأميركية ولم تعد الثروات مباحة، وقد أمّم نظام تشافيز عدداً من الشركات الأميركية، وأجبر أخرى على الإقفال (إكسون موبايل النفطية، وغيرها)، وفرض شروطاً صارمة على من بقي منها (جنرال موتورز، ماكدونالد، كوكا كولا، وغيرها). أمور لم تعهدها الشركات الرأسمالية الاستعمارية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.
فنزويلا كانت بخير في عهد تشافيز، لكن المصالح الأميركية لم تكن كذلك، فتحوّل الخطاب الأميركي إلى وضعية الهجوم. في كلام المسؤولين الأميركيين، كما في إعلام نظامهم، وُضع تشافيز في «محور الأشرار»، وصُنّف «ديكتاتوراً»، وركّزت التقارير اليومية على «شبح الاشتراكية» الذي يدمّر «الجنّة الفنزويلية» و«يفقر الشعب» و«يقمع المواطنين». أما في الواقع، فكانت فنزويلا أفضل بكثير من السابق مع ارتفاع متوسط دخل الفرد من ٤ آلاف دولار عام ١٩٩٩ إلى أكثر من ١٠ آلاف دولار في الـ ٢٠١١، ومع انخفاض معدّل البطالة من ١٤,٥٪ إلى ٧,٦٪، وانخفاض نسبة الفقر من ٢٣,٤٪ الى ٨,٥٪ (حسب إحصاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي). طبعاً، غيّبت معظم المقالات الغربية والأميركية تلك الأرقام والنسب عن مقالاتها وعناوينها في تلك الفترة، وبعض تلك المعلومات لم يظهر إلا في تقارير صحافية نشرت بعد وفاة تشافيز.
لم يهضم النظام الأميركي الاستعماري ولا أدواته الإعلامية خسارة بلد بأهمية فنزويلا واضطرار شركات تُعَدّ فخر النظام الرأسمالي للمغادرة أو لخفض إنتاجها وخضوعها لشروط صارمة تحمي العمّال، خصوصاً أن ذلك استمر في عهد نيكولاس مادورو، الذي خلَف تشافيز عام ٢٠١٣. في مواكبة كل تلك التغيرات، كان للسياسيين والصحافيين الأميركيين قاموس خاص لوصف ما يجري في فنزويلا، فوُصف مثلاً فرض الحكومة الفنزويلية شروطاً على الشركات الأميركية بـ«الحصار» وعُدَّت إجراءات استعادة حقوق الدولة والمواطنين وانتهاج التأميم «تصرفات عدائية» تجاه الشركات. كذلك استغلّ هؤلاء أخيراً الأزمة الاقتصادية والمعيشية الحادة التي تضرب فنزويلا ليصعّدوا لهجتهم ضد النظام الفنزويلي، فركّزوا على صورة «الفنزويليين الذين ينتظرون في طوابير طويلة للحصول على الخبز والدواء»، وعلى «انقطاع التيار الكهربائي يومياً» و«ارتفاع نسبة الجريمة»، وعلى «القمع الدامي للتظاهرات السلمية من قبل قوات نظام مادورو». أما الشامتون (التاريخيون) فكانوا كثراً، وركزت مقالاتهم على «سقوط فنزويلا... ضحية النظام الاشتراكي الفاشل»: «أليست الدولة التي وعد تشافيز ومادورو بتحسين أمور عمّالها الكادحين؟»، علّقت بعض المقالات الأميركية بسخرية.
قبل أيام، أعلنت شركة «جنرال موتورز» العاملة في فنزويلا منذ ١٩٤٨، إقفال مصنعها بعد توقفها عن إنتاج السيارات هناك منذ نحو سنتين، وأبلغت نحو ٢٧٠٠ موظف بقرار صرفهم برسالة نصّية، وادّعت أن القوات الحكومية «استحوذت بنحو غير شرعي على مصنعها»، بينما قالت الحكومة إن القضاء الفنزويلي نفّذ حكماً صادراً بحق الشركة. لا يمكن المتابع للخطاب الأميركي المرافق لهذا الحدث مثلاً أن يعرف أن الحكومة الفنزويلية تعهدت بإعادة توظيف أولئك العمّال المصروفين، أو أن «جنرال موتورز» كانت تدفع لعدد كبير من موظفيها، في خلال السنتين الأخيرتين، أقلّ من دولار واحد في الأسبوع!
تيلرسون ــ فنزويلا: ثأر قديم!

ليس بإمكان المتابع للأحداث في فنزويلا أن يتجاهل تفصيلاً يرتبط مباشرة بوزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون. فالأخير كان المدير العام لشركة «إكسون موبيل» النفطية عندما قرر تشافيز تأميم ٢٢ شركة، بينها شركته. حينها، رفض تيلرسون عرض تشافيز وطالب بمبلغ أكبر من المال كتعويض، لكنه فشل في الحصول عليه، فاضطرّت الشركة إلى الخروج من بلد يحوي أكبر احتياط نفطي في العالم، بخسارة بلغت ١٠ مليارات دولار. هُزم تيلرسون ــ على غير عادته ــ في فنزويلا و«راكم حقداً شخصياً ضد تشافيز»، يقول البعض.
ثأرُ تيلرسون من النظام الفنزويلي بدأ عام ٢٠١٥ عندما أعلنت شركته اكتشاف حقل نفطي ضخم في مياه جمهورية غويانا المجاورة لفنزويلا. حكومة مادورو، اعتبرت الأمر حينها «جزءاً من حملة منظمة تشنّها إكسون موبيل ضد البلد ويقودها تيلرسون من خلال علاقاته الوطيدة بالبنتاغون»، وطالبت الأمم المتحدة بالتدخل لأن الحقل النفطي المكتشف يقع ضمن المياه الإقليمية الفنزويلية لا الغويانية. لكن الأمم المتحدة لم تبتّ الأمر، واستمر تيلرسون بالحفر والشفط وتحقيق أرباح ضخمة للشركة. وبعدما عيّنه دونالد ترامب وزيراً للخارجية، لم يتردد تيلرسون بالقول إنه «سيسعى للانتقال بفنزويلا الى نظام ديموقراطي».

المصدر: صباح أيوب - الأخبار