الإضراب المفتوح عن الطعام هو بالنسبة إلى كثيرين مجرد خبر إعلامي يثير التعاطف ويستدعي المتابعة، على أمل وصول معركة أصحابه إلى خواتيمها السعيدة. لكنه بالنسبة إلى الأسرى المضربين سيرٌ على حافة الموت، تحفُّه أنواعٌ وأنواعٌ من المعاناة التي يستعصي تصورها على من لم يكابدها

مع صبيحة اليوم، يكون إضراب الأسرى الفلسطينيين قد دخل يومه الثاني عشر. يعني ذلك أن هناك نحو 1500 مناضل باتوا مضطرين اليوم إلى توخي الروية والحذر الشديدين في كل حركة جسدية يقومون بها، لأن قدرتهم على تثبيت اتزانهم العام أصبحت واهنة إلى حدّ بعيد، خصوصاً أن عوارض الدوار شبه الدائم بدأت بالتسلل إليهم. في هذه المرحلة من الإضراب، لا يعود الجوع ــ رغم قساوته ــ هو الشعور الأقسى الذي يعانيه الأسير المُضرب، والحال أن صداعاً ثقيلاً وآلاماً متزايدة في المفاصل تأخذ طريقها إلى جسده.

لكن يبقى للرائحة الكريهة التي تنبعث من الفم الوقع الأشد في المعاناة اللحظية، وهي رائحة يتسبب فيها العَفَن الذي يصيبُ المعدة وجوف الفم نتيجة خوائهما المستمر.
ويستعين المُضرِب برشحات من الملح يتناولها كل بضع ساعات للتقليل من حدة هذا العفن، وليُبقي ضغط الدم في جسمه بمستوى مقبول كي لا تتملّكه الدوخة حالَ انخفاضه.

أما الماء، فلا بد من حمل النفس عليه كُرهاً، رغم فقدان الشهية إلى اكتراعه بعد الأيام الأولى من الإضراب. وفي الأيام الأولى هذه، ما بين اليومين الأول والسابع تقريباً، يكون الجسد فريسة لشعور الجوع القاتل، يرافقه هبوط حاد في الوزن بمعدل أكثر من نصف كيلوغرام يومياً، قبل أن تتكيّف أجهزة الجسم مع هذا الوقف العنيف لروتين التغذية، فيعتدل انخفاض الوزن ويتنازل معدّله مع الوقت. ومع انقضاء الأسبوع الثاني من الإضراب، يفقد الجسم نشاطه العام، ويميل بصاحبه إلى الخمود توفيراً للطاقة الشحيحة المتبقية وغير المُستعاضة.
تخفّ الرغبة في الكلام، ويصير النطق به مُحْوِجاً إلى تكلفٍ وجهد. تزداد هذه العوارض حدةً إلى ما بعد اليوم الثلاثين. آنذاك، على ما تفيده تجارب الإضرابات السابقة، يبدأ البصر بالزوغان ويعاني الذهن تشتتاً في القدرة على التركيز، فيما يدخل الجسد بعد اليوم الأربعين حالة الخطر مع شروع الوعي بالانقطاع عن العالم الخارجي.
الوصف المتقدم يحاكي أجساداً فتِيّة ومعافاة، ولا ينطبق على الحالات المرضية أو على من يحتضن جسده قابلية حصول اشتراكاتٍ مفاجئة تضع صاحبها سريعاً على حافة الخطر، أو ربما تستوفي حياته دونما إنذار، كما حصل مع غير أسيرٍ مُضربٍ باغتتهم الشهادة وهم في الأسابيع الأولى من معركة الحقوق والكرامة.
غير أن لمعاناة الإضراب عن الطعام وجهاً آخر، لعله أشدُ وطأةً من وطأةِ الأمعاء الخاوية. فمن قرر خوض هذه المعركة وطّن نفسه على مكابدة الجوع والوهن والعفن، لكنه يبقى متوجّساً من فقدان القدرة على المبادرة والمناورة في لحظات الذروة فيها. فإعلان الإضراب المفتوح هو الورقة الأقوى التي يلعبها الأسرى دفعةً واحدةً، ويتحول بعدها رهانهم الأكبر إلى الحراك الشعبي في الخارج ليتلقف معاناتهم ويكثّفُها ضغوطاً ميدانية وإعلامية وسياسية. والواقع، أن المعركة الحقيقية لأي إضراب خاضه الأسرى الفلسطينيون كانت في هذه الساحة تحديداً، أي في الساحة الشعبية الحاضنة التي حوّلت معاناتهم إلى براكين غضب في وجه الاحتلال، ولم تبخل في تقديم الشهداء نصرةً للمضربين في السجون.
يكفي، مثلاً، أن نعلم أن إضراب أيلول 1992، الذي استمر 17 يوماً، تحول إلى ما يشبه الانتفاضة في الشارع الفلسطيني، حيث استشهد في الصدامات التي حصلت مع جيش الاحتلال خلال فترة الإضراب 16 شاباً فلسطينياً، ما دفع الحكومة الإسرائيلية إلى مراجعة حساباتها وتقديم التنازلات للأسرى خشية من تدهور الأمور نحو الأسوأ.
على أن رهان العدو يبقى دائماً على كسر إرادة الأسرى المضربين، وهو ما يسعى إلى تحقيقه من خلال حرب معنوية خبيثة يشنّها ضدهم منذ اليوم الأول. يعمد، كما يفعل حالياً، إلى عزلهم أولاً عن العالم الخارجي من خلال قطع كل وسائل التواصل مع هذا العالم، بما في ذلك منع زيارات المحامين، ثم يبادر إلى تشتيت الأسرى المضربين بين السجون، وخلطهم بأسرى آخرين غير مضربين، والأهم، اقتياد قيادات الإضراب إلى العزل الانفرادي بحيث يبقى الأسرى المضربون من دون إدارة وتوجيه.
وفي الإضراب الحالي، فقد بلغ العدو في إجراءاته القمعية حداً لم يسجل سابقاً، من خلال سحب الملح من الزنازين، والقيام بتفتيشات استفزازية يومية داخلها، واعتماد سياسة التنقيل الدائم للأسرى بين المعتقلات، ومن شأن كل ذلك أن يسرّع في إرهاق الأسرى واستنزاف طاقاتهم البدنية.

المصدر: محمد بدير - الأخبار