يروي الصحفي غازي سلامة أنه عندما جاء من مدينته السلمية إلى دمشق في عام 1969 ليعمل في «اتحاد شبيبة الثورة»، كُلّف إعداد برنامج تلفزيوني عن الاتحاد. المفارقة ــ كما يؤكد ــ أنه لم يكن يعرف آنذاك التلفزيون أو يشاهده. وهذه هي حال كثير من العاملين اليوم في مؤسسات الإعلام الرسمي، لا بل حال العديد من القيادات التي تعاقبت على إدارته كوزراء وإدارات
دمشق | عندما دخلت حكومة وائل الحلقي مرحلة تصريف الأعمال في تموز الماضي، حاول وزير الإعلام آنذاك عمران الزعبي، «تبييض» صفحة أربع سنوات من إدارته للإعلام السوري، فقدم في الاجتماع الأخير لتلك الحكومة تقريراً عرض فيه هيكلية المؤسسات الإعلامية الرسمية وإنجازاتها وصعوباتها، إلا أن التقرير غير المنشور، والمكوّن من 33 صفحة، لم يشر، لا من قريب ولا من بعيد، إلى التراجع الخطير في أداء ذلك الإعلام، وحالة عدم الرضى الرسمي والشعبي عن واقعه.
وما كان يصفه الزعبي بالإنجازات، تحوّل مع الحكومة الجديدة إلى عبء مؤسساتي ومهني ومالي يجب التخلص منه، وهذا ما كان بالفعل. فكانت البداية مع إلغاء «المجلس الوطني للإعلام» ونقل جميع صلاحياته إلى وزارة الإعلام، ثم سلطت الأضواء جميعها على «الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون» لسببين رئيسيين: الأول يتمثل في الرغبة الرسمية بترشيد النفقات المالية السنوية المتزايدة للهيئة، والبالغة نحو 4 مليارات ليرة (أي ما يعادل نحو 8 ملايين دولار)، فكان قرار إغلاق قناة «تلاقي»، التي لم تكد تكمل عامها الثالث، ثم تبعه قرار إغلاق القناة الأرضية وإذاعة صوت الشعب، وثمة معلومات غير مؤكدة عن إغلاق قنوات وإذاعات أخرى قريباً.
أما السبب الثاني، فيكمن في اختزال البعض للإعلام الرسمي بالتلفزيون لعوامل متعددة، مشيرين إلى أن النجاح في تنفيذ أي مشروع إصلاحي في هذه المؤسسة، يعني تلقائياً ضمان تحقيق نتائج مشابهة في وسائل الإعلام الأخرى. وكان من الطبيعي، في ضوء، ذلك أن يكون عدد العاملين الكبير في الهيئة أحد الملفات الرئيسية الواجبة معالجتها، حيث تشير البيانات الرسمية التي حصلت عليها «الأخبار» إلى أن عدد العاملين في الهيئة وصل إلى 5035 عاملاً، مشكلين بذلك نسبة 60% من إجمالي عدد العاملين في وزارة الإعلام ومؤسساتها كافة. لكن لم يكن يتوقع أحد أن يتصدر هذا الملف العملية الإصلاحية المفترضة، ويستقطب كل تلك «الضجة»، والفضل في كل ذلك يعود إلى طريقة معالجة الملف والأخطاء المرتكبة، التي أدت إلى حدوث حالة «غليان» في الهيئة عبّرت عن نفسها بمؤشرات عدة.
مشكلة بوجوه عدة
يؤخَذ على الإعلام الرسمي في سوريا فشله بتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية، هي: صناعة رأي عام داعم لسياسة الدولة وتوجهاتها على مختلف المستويات، كسب ثقة المواطن وبناء علاقة تفاعلية معه، وثالثاً مواكبة التطورات المهنية والتكنولوجية التي جعلت من الإعلام بوسائله المختلفة سلاحاً لا يُضاهى. هذا الفشل تتعدد أسبابه وتتباين تبعاً لنظرة كل مهتم بالشأن الإعلامي السوري. فهناك من يرى أن غياب الإعلام الخاص لأكثر من أربعة عقود أسهم في ترهل الإعلام الرسمي وضعف تنافسيته. وهناك من يعيد الأمر برمته إلى البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعمل فيها هذا الإعلام، والتي أفقدته جزءاً من حريته، وقدرته على العمل وفق ما تتطلبه الأصول المهنية. وهذا يوضحه أكثر رئيس تحرير صحيفة «الثورة» سابقاً، أسعد عبود، بإشارته إلى أن «الإعلام السوري الراهن، ولا سيما في ظل الظروف القائمة، جزء من ماضٍ غير قادر على الاستمرار، لأنه فقد الكثير من مقوماته السياسية والاجتماعية. وتالياً فهو اليوم لا يستطيع أن يمثّل نفسه. ورغم حالته المأسوية يُعلق على مشاجبه مآسي غيره من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية». ويضيف عبود في تصريح لـ«الأخبار» أنه «أعطيت للإعلام مهمة عرض البناء الوطني بطابع عقائدي يمنع الخطأ، وتالياً يمنع الإشارة إلى الخطأ. ورغم جهود عديد الإعلاميين فيه، للنفاد من هذه الحالة، إلا أنه ظل متعثراً يتعرض للإهانة، من السياسي الذي يريد تحميله أخطائه، المثقف الذي يريده منبراً لنشر إبداعاته، والاقتصادي الذي يريده مزوراً للحقائق. ومهما عددنا ودرنا فلن نستطيع حصر المشكلة، أو الابتعاد عن تعبير الحرية، نعم... لعل الحرية المفقودة أكثر ما يختصر الإجابة». لكن ما فائدة الحرية، إن وجدت، مع افتقاد الجهات المسؤولة عن إدارة هذا الإعلام للمهنية والكفاءة، فمشكلة الإعلام السوري عموماً كما يلخصها المدير العام، رئيس تحرير عدد من المؤسسات الإعلامية الرسمية سابقاً، الدكتور فايز الصايغ، «تتمثل في افتقاد المسؤول الأول للمرجعية المهنية، وذلك في ظل مركزية القرار الإعلامي، إضافة إلى مفهوم القائمين على الإعلام لحرية الإعلام وشفافية المعلومات والجسور التي تربط بين الإعلام والمواطن». ويبيّن أن الوجه الآخر للمشكلة هي في كونه «إعلاماً رسمياً فقط، في ظل غياب الإعلام غير الرسمي والهوامش التي يتحرك فيها».
وعلى هذا، فإن مشكلة الإعلام السوري الرسمي متعددة الأوجه، تبدأ بغياب هوامش الحرية المتاحة له ليتحرك ويعمل وفق أطر قانونية متقدمة، مروراً بواقع وتركيبة البنية المؤسساتية والإدارية المترهلة، الطاردة للكفاءات والخبرات، وصولاً إلى فقدان الاستقلالية، والذي سمح لمؤسسات وجهات عديدة بالتدخل في عمله، وهو أمر أشار إليه صراحة الرئيس بشار الأسد قبل عدة أشهر، عندما تحدث عن «طبيعة البيروقراطية التي يرتبط بها الإعلام الرسمي، والتي تسمح أحياناً لكثير من المؤسسات الأخرى غير الإعلامية بالتدخل في عمل الإعلام، وبالتالي تعرقل أكثر أي عملية تطوير».
إعادة بناء متعثرة
أخذت الحكومة الحالية على عاتقها مهمة تطوير الإعلام الرسمي، ولا سيما بعد مطالبة الرئيس الأسد لها بالقيام بعملية «تنظيف المؤسسات الإعلامية من الفساد ومن الترهل». إلا أنه، رغم السقف المرتفع للقرارات التي اتخذتها وزارة الإعلام في خلال الفترة الماضية، من إغلاق قنوات وإذاعات، إلى إزاحة إدارات تحوّل وجودها إلى ما يشبه المسلمات في المشهد الإعلامي الرسمي، فإن ذلك لم يكن كافياً للقول إن ثمة تحولاً إصلاحياً قد بدأ يتلمس طريقه إلى مؤسسات، يبدع كوادرها عندما يخرجون منه. والسبب في ذلك كما يعتقد كثيرون يتمثل في ناحيتين: الأولى أن تلك القرارات اتخذت بمعزل عن الصحفيين أنفسهم، وتالياً فهي لم تلامس أوجاعهم. والناحية الثانية أن هذا الإعلام لا يزال يعامل كإعلام حكومي، لا كإعلام دولة رغم كل ما يقال ويروّج.
ليس هناك شك في أن عملية إعادة بناء الإعلام الرسمي السوري تحتاج إلى وقت طويل، وإلى عمل تراكمي مستمر، وعلى هذا فإن مدير تحرير صحيفة «البعث» ناظم عيد، يرى «أن تصويب أداء المؤسسة الإعلامية، يبدأ من اختيار الكوادر للدراسة الأكاديمية، فالإعلام ليس مجرد مناهج وامتحانات ومعدلات تخرج، إنما في الأمر شرط لازم وهو «الخصوصية الشخصية»، أي الموهبة والسمات الأخرى التي نسميها ملكات». ويضيف في حديثه لـ«الأخبار» أنه «على مستوى المؤسسات الإعلامية، إن اختيار مفاصل قيادة العمل الإعلامي مسألة بالغة الحساسية، ليس فقط بالنسبة إلى رئيس تحرير أو مدير تحرير، بل حتى رؤساء الدوائر والأقسام، فالمطلوب أن يكون شاغلو هذه المفاصل إعلاميين يتمتعون بخبرة مهنية أولاً وقدرات إدارية ثانياً». والمسألة الأخرى المهمة «هي في علاقة الإعلام مع السلطات كافة، فثمة خطوط وطنية حمراء، ليست فقط سياسية، بل اقتصادية وثقافية واجتماعية، يجب عدم الاقتراب منها، والباقي يكون متاحاً للمقاربات الإعلامية بكل الوسائل والأنواع التقليدية وغير التقليدية». والسؤال هو: من الذي يحدد الخطوط الوطنية الحمراء؟ وماذا عن قانون الإعلام الذي صدر مع بداية الأزمة واعتبر متقدماً على كثير من الأنظمة والتشريعات. لماذا لم يطبق؟!