لدينا ذلك الاعتقاد الراسخ بأن الكذب اختراع بشري. وفي الواقع، هو اعتقاد له ما يبرره … على الأقل ظاهريًا؛ فلماذا قد يلجأ أي كائن آخر دون البشر إلى الكذب؟! لا شيء بالطبع! أو هكذا نحب أن نعتقد، تمامًا كما نحب أن نعتقد أن بعض الحيوانات كالأسماك لا تشعر بالألم، هكذا يمكننا سلق الكركند أو الاستاكوزرا بينما لا يزال حيًا أو قطع رأس الحبار وتقديمه بينما لا تزال زوائده تسعى في كل اتجاه. إن للطعم الجيد ثمن يجب أن يدفعه أحدهم، ولو كان بالكذب على أنفسنا…

لكن الحقيقة هي أن الطبيعة قاسية لا ترحم، وقد طوّرت بعض الحيوانات طرقًا وأساليب خاصة بهم للتحايل على مصاعب الحياة أو للنجاة؛ بداية من تقليد بعض الحيوانات الأخرى أو استغلال البعض الآخر. ومعكم خلال السطور القادمة، سنرصد بعض تلك الطرق التي تلجأ إليها الحيوانات للكذب وخداع بعضها البعض.

القيق الأزرق Blue Jay

الطيور من بين أبرع الكذّابين في الطبيعة. ولنبدأ بطائر القيق الأزرق Blue Jay. القيق الأزرق هو طائر يكثر وجوده في النصف الشرقي من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا حتى خليج المكسيك، ويعتبر من فصيلة الغربان، ويعتبر من الطيور الجسورة التي تملك حنجرة قوية بصوت عال وحاد.

كيف يكذب القيق الأزرق؟ بتقليد صوت الصقر بالطبع! بصرخات طويلة حادة لا يمكن تفرقتها عن صوت الصقر الجارح، يطلق القيق الأزرق صيحته الكاذبة لتفريق الطيور الأخرى كالحمائم والطيور الأصغر والاستيلاء على طعامها، خاصة في الحدائق التي يتناوب عليها الزوار لإطعام الطيور. هكذا يضمن القيق الأزرق وجبة مجانية بلا شريك بكذبة بسيطة لا تضر أحدًا!

شحرور البقر Cowbird

الطائر التالي على قائمتنا المشينة هنا هو شحرور البقر  Cowbird الذي يعد من مُتطفلات الأعشاشBrood parasite، والتي يقصد بها الطيور التي تضع أنثاها بيضها في أعشاش طيورٍ أخرى لتتولّى تربيتها بدلًا من أن تقوم بهذه المهمة بنفسها!

فبسبب نمط حياتها المُتنقّل وعدد بيضها الكبير في الموسم الواحد والذي يصل إلى 40 بيضة، فإن هذه الطيور لا تستطيع بناء أعشاشٍ والرقود فيها على بيوضها لفترة طويلة؛ لذا فهي تتطفل على أعشاش أنواعٍ أخرى من الطيور، فتضع فيها بيضها وتتركها حتى يربيها الزوجان صاحبا العش. وهي لا تضع كل بيضها في عش واحد، بل توزعها على أعشاش كثيرة. هذا طائر حكيم يؤمن بمقولة “لا تضع البيض كله في سلة واحدة”!

تنتظرُ أنثى شحرور البقر إلى أن تضع صاحبة العُش الأصليَّة بيضها ثمَّ تغادر، فتأتي وتبيض بيضة واحدة داخل عشها. ثم تستمرُّ الأنثى في بعض الأحيان بمُراقبة العش، فإن تبيَّن لها أن بيضتها قد كُسرت أو رُميت، فإنها قد تعمد إلى تدمير العش والفتك بالبيض الآخر! هذا ليس طائر كذاب فحسب إذن، بل هو “بلطجي” كذلك!

ولا يتوقف الأمر على كذبة شحرور البقر، بل هناك من يصدقها بشكل مأساوي. فطائر هازجة كيرتلاند Kirtland’s warbler المعرض لخطر الانقراض يلتبس عليه الأمر فيحتضن بيض شحرور البقر باعتباره بيضه هو، فلا يضع مزيدًا من البيض! وعندما يفقس البيض يواصل رعاية الصغار كأنهم صغاره هو! يعد هذا أحد الأسباب الرئيسية لتراجع أعداد هازجة كيرتلاند وتعرضها لخطر الانقراض في الواقع؛ وكل هذا بسبب كذبة صغيرة لأم لا تبالي…

السنجاب الرمادي الشرقي Eastern Gray Squirrel

لنا جميعًا، تمثل السناجب حيوانات لطيفة صغيرة، وهي كذلك بالفعل كما اعتدناها في أفلام الرسوم المتحركة لوالت ديزني. دعكم من مشاعر المزارعين نحوها باعتبارها قوارض ضارة أقرب إلى الآفة لاقتياتها على الثمار والفواكه على الأشجار.

ومن بين السناجب بأنواعها المختلفة، هناك السنجاب الرمادي الشرقي الذي يتواجد بأمريكا الشمالية ويعرف بكذبه وخداعه الدائم. حيث يعهد السنجاب الرمادي الشرفي إلى تخزين طعامه بالأرض الجافة لاستعادته وقت الحاجة؛ وعندما يفعل فهو يخفي الثمرة في فمه ويتظاهر بدفنها في أكثر من حفرة قبل أن يضعها بالفعل في إحداها! وهو أسلوب يتبعه لخداع أي من السناجب الأخرى التي قد تراقب ما يفعله. هكذا سينتهي الأمر بأي مغير إلى حفرة فارغة.

هل يكتفي بهذا؟ لا بالطبع، بل يعمد السنجاب الرمادي الشرقي إلى خدعة أخرى بأن يدفن ثمرته الثمينة في حفرة، ثم يعمد إلى حفرة أخرى فارغة ويغطيها بالورق ويبالغ في تمويهها لخداع من يراقبه أو حتى من يعثر عليها باعتبارها مخبأ جيد للطعام. تتساءلون هل هذا يعد كذبًا؟! بالطبع هو يكذب … يكذب على السارق المحتمل!

الحبّار Cuttlefish

الحبّار Cuttlefish من الرأسقدميات أو رأسيات القدم وهي طائفة من الرخويات اللاحمة المفترسة التي تتغذى على الأسماك الصغيرة والقشريات؛ وعلى الأغلب قد تناولت أحد أنواعه كالسبيط يومًا ضمن حساء ما في وقت ما. لكن كيف يمكن لهذا الكائن اللطيف لذيذ الطعم أن يكذب وهو يبدو بلا مخ أصلًا؟ في الواقع هو كذّاب ماهر للغاية ويفعل هذا بأسوأ طريقة ممكنة!

إنها تلك الخدعة التي يمارسها الحبّار باسم “الذكر المتسلل Sneaker Male”، حيث يغير الذكر من مظهره ويتنكر في هيئة أنثى حبار لهدفين مهمين… الأول هو الهروب من مضايقة وهجوم الذكور المسيطرة الأقوى، والثاني هو الحصول على فرصة لتلقيح بيض الإناث الأخرى!

تخيلوا معي المشهد التالي: هناك آلاف البيوض الصغيرة المكوّمة والتي تنتظر التلقيح، وهناك ذلك الذكر القوي الذي يحرسها تمهيدًا لتلقيحها بنشر نطافه عليها. تقترب أنثى حبار صغيرة مرقشة من البيوض فلا يعيرها الذكر انتباهًا؛ وهي غلطة شنيعة سيكتشفها الذكر سريعًا حالما تنطلق الأنثى كالبرق وتنشر سحابة نطاف فوق البيوض! لقد كان هذا ذكرًا متسللًا!

الحبار الأسترالي يفعل هذه الخدعة ببراعة مطلقة، حتى أنه يستطيع أن يقسم مظهره نصفين، أحدهما لأنثى والآخر لذكر لخداع ذكر وأنثى على الجانبين، بحيث يبدو كذكر للأنثى على يمينه وأنثى للذكر على يساره! هذا مستوى مختلف من الكذب كما ترون!

اليراعة Firefly

اليراعة أو الخنافس المضيئة أو الحباحبFireflies  هي حشرة تنتمي إلى أسرة الخنافس غمدية الأجنحة التي تتميز بظاهرة الإضاءة الباردة Cold Lightوالتي تنتج عن تفاعل إنزيم وصبغة خاصة ببطن تلك الحشرة المدهشة، لتومض بضوء فوسفوي عبارة عن 100% طاقة ضوئية وصفر % حرارة!هذه معادلة يسيل لها لعاب أي عالم فيزياء، لكن هذه الحشرة البسيطة والمعجزة تفعلها طيلة الوقت بلا عناء. بالطبع نعلم أنه لو احتوى هذا الضوء على أي نسبة حرارة مهما صغرت لاحترق جسم الحشرة وماتت.

اليراعات تلجأ لبعث هذا الضوء لأسباب مختلفة وعلى أشكال متباينة أقرب للإشارات؛ ومن بين الأسباب التي تلجأ إليها إناث اليراعة تحديدًا هو جذب شريك قوي محتمل للتزاوج، أو هكذا تكذب في بعض الأوقات! فعند الحاجة، تقوم الأنثى بتقليد الإشارة الضوئية الخاصة بفصائل أخرى أصغر من اليراعات لجذب ذكورها الذين يسحرهم النداء. هكذا يعتقد الذكور أنها مجرد أنثى أخرى من فصيلتهم تدعوهم للتزاوج، ولا ينتبهون إلا وهم بين فكي الأنثى الكاذبة الفتاكة التي تلتهمهم أحياءً بلا رحمة!

مولي الأطلسية The Atlantic Molly

وأخيرًا، هناك تلك السمكة التي تدعى مولي الأطلسية، والتي تعد سمكة عادية وشائعة للغاية في المياه الأمريكية. فقط هناك من سلوكها ما يجعلها غير عادية على الإطلاق.

ففي موسم التزاوج، تلجأ الذكور إلى حيلة ماكرة للغاية للفوز بأجمل الأناث وأكثرها جاذبية لهم؛ وذلك بأن يتنافسوا فيما بينهم على الإناث الأقل جاذبية المتواجدة بمقربة من تلك الأكثر جاذبية! أجل، تكذب الذكور لإثارة غيرة الإناث ودفعها للشعور بالتهديد خوفًا من إضاعة فرصها في التزاوج وتلقيح البيض! ودعوني أخبركم ان هذه الحيلة دومًا ما تؤتي ثمارها. من كان يصدق أن السمك قد طوّر شعور الغيرة لديه إلى جانب الكذب واصطناع المشاعر كذلك!