أنجز إيمانويل ماكرون ما كان يطمح إليه، إذ أحرز حزبه، أمس، الأغلبية المطلقة في الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية، في استحقاق كانت لنتائجه تداعيات ثقيلة على بقية الأحزاب، وبالأخص على «الحزب الاشتراكي» الذي أصبح في مواجهة أزمة كبرى قد تتهدّد استمراريته

باريس | حطّمت نسبة المقاطعة في استحقاق يوم أمس رقماً قياسياً جديداً، إذ تجاوز عدد الممتنعين عن التصويت نسبة 56 في المئة من المسجّلين على القوائم الانتخابية. هذا التراجع الإضافي في نسبة المشاركة، بعد دورة أولى جرت قبل أسبوع، واعتُبرت الأقل استقطاباً لاهتمام الناخبين في تاريخ الجمهورية الخامسة الفرنسية، سمح لحزب الرئيس إيمانويل ماكرون بأن يعمّق تقدّمه، ليحرز الأغلبية المطلقة بـ360 مقعداً برلمانياً، من بينها 44 مقعداً لحليفه الوسطي «التيار الديموقراطي»، الذي يتزعمه وزير العدل فرنسوا بايرو.

الائتلاف اليميني، الذي يضم «حزب الجمهوريين» و«اتحاد الديموقراطيين المستقلين»، حلّ في المنزلة الثانية بـ 125 مقعداً، بينما مُني «الحزب الاشتراكي»، الذي كان يحظى بالأغلبية المطلقة في البرلمان السابق بـ295 مقعداً، بهزيمة تاريخية، إذ لم ينل سوى 34 مقعداً. لكن ائتلافه البرلماني مع حزبي «الراديكاليين» و«الخُضر» يخوّله تشكيل ثالث أكبر كتلة برلمانية بـ49 مقعداً نيابياً.
وبالرغم من نظام الاقتراع بالأغلبية المباشرة على دورتين، والذي يحدُّ كثيراً من التمثيل البرلماني للتنظيمات الحزبية الصغيرة، إلا أن «أحزاب الأطراف» كانت المستفيد الأكبر في هذه الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية. فقد تمكنت «فرنسا المتمردة»، بزعامة جان لوك ميلانشون، من إحراز 19 مقعداً، متجاوزاً بذلك عتبة الـ15 برلمانياً الضرورية لتشكيل كتلة نيابية. هذه الكتلة اليسارية التي سيتزعمها ميلانشون بنفسه، بعد انتخابه نائباً عن مارسيليا، يُرتقب أن تكون أوسع، إذا انضم إليها «الشيوعيون» الذين نالوا 11 مقعداً، ولن يستطيعوا بالتالي إنشاء كتلة خاصة بهم.
«الجبهة الوطنية»، التي كانت التوقعات تشير إلى أنها لن تفوز سوى بمقعد برلماني أو اثنين، حققت قفزة تاريخية، حيث تم انتخاب 8 من مرشحيها (مقابل نائبين فقط في البرلمان السابق). وبالرغم من أنّ زعيمة الحزب مارين لوبن استطاعت دخول الى البرلمان، إلا أنها لن تجد حلفاء لتشكيل كتلة نيابية.
لكن التقدّم الذي حققته «الجبهة الوطنية» سيوفّر لهذا الحزب اليميني المتطرف جرعة أوكسجين بالغة الأهمية على الصعيد المالي. فنظام تمويل الأحزاب في فرنسا يحدد الموازنات التي تصرف لكل حزب من الخزينة العمومية وفقاً لعدد نوابه (37 ألف يورو سنوياً عن كل برلماني منتخب)، وعدد الأصوات التي أحرزها كل حزب في الانتخابات التشريعية (1.4 يورو عن كل صوت). وقد نالت «الجبهة الوطنية» 1.7 مليون صوت، وانتُخب 8 نواب من مرشحيها، ما سيعود عليها بتمويل عمومي غير مسبوق يقدر بنحو 2.7 مليون يورو سنوياً.
في المقابل، لن تقتصر انعكاسات الهزيمة المدوية التي مُني بها «الاشتراكي» على الجانب السياسي، اذ اضطر الأمين العام للحزب، جان كريستوف كومباديليس، الى الاستقالة فور إعلان النتائج الأولية. فالهزّة الأكبر ستكون ذات طابع مالي، لأن الأغلبية المطلقة التي كان الحزب يحظى بها في البرلمان المنتهية ولايته (295 نائباً) كانت توفر له عائدات من المال العام تفوق 25 مليون يورو سنوياً، ما يمثل أكثر من 40 في المئة من موازنة الحزب. وتشير التقديرات إلى تراجع عدد النواب الاشتراكيين الى 34 فقط في البرلمان الجديد، وانهيار عدد الأصوات التي استقطبها الحزب إلى أقل من 7 في المئة، ما سيحرمه من نسبة ضخمة من عائدات التمويل العمومي، بما يفوق 10 ملايين يورو سنوياً.
الأزمة المالية الحادة التي سيتسبّب فيها هذا التراجع تشكل تهديداً جدياً لمستقبل الحزب. وبالرغم من أن المدافعين عنه لفتوا إلى أنّ «الاشتراكي» سبق له أن واجه أزمة مالية مماثلة، حين فقد الأغلبية البرلمانية عام 1993، وتراجع عدد نوابه من 264 الى 57 فقط، إلا أنّ الحزب اضطر آنذاك الى رهن مبنى مقره المركزي في باريس، الذي تُقدّر قيمته العقارية بنحو 50 مليون يورو. وهذا ما سمح له بالحصول على قروض مصرفية لتجاوز شحّ عائداته العمومية، وذلك حتى تحسّنت ظروفه بعد عودته الى الصدارة في البرلمان، إثر انتخابات عام 1997.
لكن الخبراء يرون أن هذا التفاؤل الذي يتمسّك به أغلب أقطاب «الاشتراكي» يفتقد الموضوعية؛ فالقروض المالية التي حصل عليها الحزب بعد أزمة 1993، لم تكن كافية وحدها لاجتياز الأزمة، بل أسهمت اشتراكات وتبرّعات مناضلي الحزب في تعويض القسط الأكبر من الشح المالي. والمعضلة اليوم أن «الاشتراكي» لن يستطيع حالياً الرهان على الاستكتابات المالية لمناضليه، لأن إخفاقات عهد فرنسوا هولاند تسبّبت في تراجع عدد المنتمين الى الحزب بأكثر من النصف (أقل من 120 ألف عضو مسجّل رسمياً في الحزب في مطلع السنة الحالية، مقابل 256 ألفاً عام 2007). ومن المرتقب أن يستمر هذا النزيف بحكم تزايد أعداد المنشقين عن الحزب (سواء للانضمام الى حزب ماكرون يميناً، أو الى صفوف «فرنسا المتمردة» يساراً، بزعامة ميلانشون).
التقديرات الأكثر تشاؤماً تشير إلى أن «الاشتراكي» حتى لو قام ببيع مقره المركزي، فلن يتمكن من مواجهة هذه الأزمة المالية، إذ إنه سيعجز، خلال أقل من سنة، عن دفع رواتب 120 موظفاً يعملون في جهازه الإداري. وهذا ما سيضعه على حافة الإفلاس، وبالتالي حلّه من قبل القضاء الإداري.
في المقابل، استطاع «الجمهوريون» (اليمين) الحدّ من الهزة المالية التي ستلحق به جراء اكتساح حزب ماكرون البرلمان الجديد. فبحكم احتفاظ «الجمهوريين» بـ125 مقعداً برلمانياً، لن يتجاوز التراجع في عائداتهم العمومية 3.7 ملايين يورو سنوياً. لكن الدور قد يأتي عليهم، في منتصف أيلول المقبل، خلال انتخابات تجديد نصف تشكيلة الغرفة البرلمانية الثانية (مجلس الشيوخ)، علماً بأنهم يحظون حالياً بالأغلبية في هذا المجلس.
إلا أنّ حزب ماكرون بدأ يضيّق عليهم الخناق، من خلال استقطاب عدد متزايد من النواب المنشقين عن الائتلاف اليميني، لتشكيل «كتلة ماكرونية» في «مجلس الشيوخ»، ومن المرتقب أن يُعلن عنها في خلال الأسبوع المقبل. ويندرج ذلك ضمن خطة يهدف من خلالها حزب «تشغيل الجمهورية» الماكروني إلى وضع رجل أولى في «مجلس الشيوخ»، تمهيداً لاكتساحه في انتخابات أيلول، وبالتالي إحكام القبضة الماكرونية على غرفتي البرلمان، لإسكات أيّ أصوات معارضة من شأنها أن تتصدى لقوانين الإصلاحات الليبرالية التي يعتزم الرئيس الجديد إطلاقها في الأشهر المقبلة.

المصدر: عثمان تزغارت - الأخبار