«إمّا أن تتنازل، أو تُقتل. وليس عندك، بخلاف هذين الخيارين، بديل». كانت تلك هي كلمات الأمير محمد الفاصلة، وقد جاء إلى قصر الناصرية الذي يقيم فيه العاهل السعودي، حاملاً إنذاراً نهائياً. وساد الصمت برهة من الزمن في ذلك الفجر الحزين. ولم يتجاسر أحد من الحاضرين في مجلس الملك على أن يعلّق على هذا الإنذار الدموي بالكلام.
وطأطأ الملك رأسه، وهو يفكر في ما آلت إليه أمور حكمه ومملكته وأسرته، ثم بدا كأنه اتخذ قراراً، فقد التفت إلى رئيس الحرس الملكي عثمان آل حميد، وقال له بصوت حاول فيه أن يستجمع رباطة جأشه: «قاوم الانقلابيين، يا عثمان أنت وجنودك، حتى آخر رصاصة عندكم. أنا لن أستسلم للذين يريدون أن يطبقوا بأيديهم على عنقي. لم أغدر بهم أبداً، وهاهم الآن يغدرون... ويحق لنا أن ندافع عن أنفسنا بكل ما أوتينا من قوة حتى يحكم الله بيننا وبينهم، ويفصل في هذا الأمر».
أول ما صنعه الملك الجديد هو الأمر بهدم أسوار قصر الناصرية
كانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحاً في ذلك اليوم الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1964. ولقد تم إيقاظ الملك سعود بن عبد العزيز عاهل المملكة السعودية من نومه لإبلاغه بذلك الإنذار النهائي والحاسم الذي جاء يحمله إليه أخوه محمد «أبو شرّين». في البداية لم يصدّق سعود أن إخوانه «اللئام الذين أكرمهم، وأحسن إليهم» قد عزموا على أن يقتلوه أو يخلعوه عن عرشه؛ غير أن الإشارات بدأت تتوالى مؤكدة صحة ما جاء به «أبو شرّين» من خبر، في ذلك الفجر البارد. ومع طلوع شمس الصباح، قطِعت خطوط الهاتف عن مقر الملك تماماً. وبعد ساعة طُوِّق قصر الناصرية في الرياض من كل جوانبه بمئات من جنود «الحرس الوطني»، ذوي الانتماءات القبليّة. وعَزل أولئك الجنود كل من في القصر، ومنعوا كل أشكال الدخول أو الخروج منه. وتمسّك جنود الحرس الملكي، ذوي «البيريهات» الحمراء، بمواقعهم داخل أسوار قصر الحكم شاهرين أسلحتهم الرشاشة، ومشعلين نيراناً هنا وهناك، حوّل دخانها الكثيف أسوار قصر الحُكم الوردية إلى السواد. كان كل فريق من الجانبين يوشك على أن يطلق رصاصه على الطرف الآخر، متى صدرت له الأوامر بذلك. وإن حدث هذا بالفعل، فإن مذبحة داخلية بين جنود آل سعود ستقع.
كان على طرف ثالث أن يتدخل الآن، لكي يفصل في أمر الطرفين السعوديين المتنازعين، ويحكم بينهما. ولم يكن بوسع أحد أن يلعب ذلك الدور سوى أميركا ذاتها. وهكذا طار باركر هارت، سفير الولايات المتحدة الأميركية المفوض فوق العادة، من مقره في جدة نحو الرياض ليضع بنفسه اللمسة الأخيرة لانقلاب القصر في مملكة آل سعود. وعندما بدا أن جنود الحرس الملكي لا يريدون أن يسلّموا بالهزيمة، أمر السفير هارت طيارين أميركيين يعملون في قاعدة الظهران بالمجيء فوراً. وفي عصر يوم 1 تشرين الثاني 1964، حلقت طائرتا «إف 4 ــ فانتوم» على ارتفاع منخفض جداً فوق قصر العاهل السعودي، موصلتين بذلك رسالة جدية إلى الملك بأن اللعبة قد انتهت، وأن الأميركيين نفضوا نهائياً أيديهم منه (1). وفي مساء ذلك اليوم، في فندق «صحاري بالاس» الفاخر قرب مطار الرياض، اجتمعت هيئة كبار علماء الدين في السعودية، يترأسهم المفتي العام للمملكة الشيخ الأعمى محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وشقيقاه عبد اللطيف وعبد الملك آل الشيخ، والشيخ الأعمى الآخر عبد العزيز بن باز، وأصدر الجماعة فتوى يزكون فيها خلع الملك سعود من منصبه، ويدعون الناس إلى مبايعة ولي العهد فيصل بن عبد العزيز ملكاً جديداً للبلاد، وذلك «درءاً للفتنة، ومنعاً للفوضى، واجتناباً للضرر العام على العباد والبلاد، وطلباً للمصلحة العامة التي تستند إلى المبررات الواقعية والقواعد الشرعية» (2).
في مساء يوم 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1964، أذاع راديو المملكة السعودية أن الملك سعود قَبِل أن يتنازل عن المُلك لأخيه، بسبب ظروفه الصحية. وفي صبيحة اليوم التالي، وصل الملك المعزول سعود بن عبد العزيز إلى مطار الرياض ليغادر مملكته نهائياً إلى المنفى. كان يرافقه موكب ضخم من السيارات الفارهة التي حملت أبناءه المئة والخمسة عشر، وزوجاته، ومحظياته، وخدمه، وحشمه، وأتباعه، ومرافقيه، وحقائب أمتعتهم. وجاء إخوة الملك سعود إلى المطار أيضاً، لأجل وداع أخيهم المنفي، بكل ما يستحقه من احترام وحفاوة وإكرام. ووقف الأمراء والوزراء وكبار العلماء في صف طويل يحيّون «طويل العمر» المخلوع، ويقبّلونه من أنفه، ويحضنونه من كتفيه. وكان في آخر صفّ المودعين الملك الجديد فيصل بن عبد العزيز، وقد جاء بنفسه لوداع أخيه ومواساته. وحين وصل سعود إلى حيث فيصل، حَنَى العاهل المنتصر رأسه إجلالاً للملك المهزوم، ثم انحنى فجأة وقبّل يده بكل تواضع ومحبة ولطف (3). ونظر سعود إلى عدوه، وهو يخفي ما في نفسه من الحنق والغيظ تحت قناع من الكبرياء، وتمتم بمرارة قائلاً له: «الله يعينك»، فردّ الآخر مجاوباً: «الله يعزّك». وحملت رافعة شوكية الملك المغادر الذي لم يكن قادراً على صعود درجات سلّم طائرته الخاصة «بوينغ 720». ومن مطار الرياض اتجه سعود ومن معه إلى بيروت ليتخذوها منفى، ثم استقر بهم المطاف أشهراً في فندق «شيراتون» في القاهرة عاصمة عدوّهم السابق جمال عبد الناصر، وأخيراً يمّم الملك وحاشيته صوب أثينا، حيث حجزوا لأنفسهم الطوابق العليا من فندق «كافورين» المطل على شاطئ البحر.
وكان أول ما صنعه الملك الجديد فيصل بن عبد العزيز حينما عاد من وداع أخيه سعود في المطار، هو الأمر بهدم جدران وأسوار قصر الناصرية، المقر الفخم والضخم للعاهل السابق. وأما سعود الملك المخلوع، فلم ينسَ قطُّ ثأره من أخيه، وظل حتى آخر يوم من حياته ينسج المؤامرات للانتقام منه. وتلك حكاية أخرى من حكايات آل سعود.
هوامش
(1) انظر شهادة الملك سعود عن دور السفير الأميركي في عملية خلعه عن عرشه، والتي أوردها محمد حسنين هيكل في كتابه «1967 ــ الانفجار»، في الصفحة 357.
(2) نص فتوى هيئة كبار علماء المملكة التي تزكّي خلع الملك سعود آل سعود، صادرة في جريدة «أم القرى» السعودية، عدد 2045، بتاريخ 6 نوفمبر 1964.
(3) مشهد توديع الملك فيصل لأخيه الملك المعزول سعود وتقبيله ليده، مذكور بتفاصيله في كتاب «المملكة» للكاتب البريطاني روبرت ليسي، في الصفحة 214.