في دارٍ مستأجرة صغيرة في حي العزيزية تقطن مجموعة شبّان أوروبيين منذ شهور. أعمارهم تُراوح بين الخامسة والعشرين والأربعين، ليسوا هنا بدافع السياحة طبعاً. عملهم مع منظمة إنسانيّة قادهم إليها، فأوقعتهم في غرامها، وأبهرهم أهلها
حلب | تُعاينُ كاترين مجموعة أقراص مُدمجة داخل واحد من أشهر محالّ بيع التسجيلات الموسيقيّة في مدينة حلب مصغيةً إلى شرح البائع حولها. يقع خيار الأربعينيّة الفرنسيّة على مجموعة تسجيلاتٍ لصباح فخري وميّادة بسيليس وأسمهان وفرقة الكندي للموسيقى العربيّة (أسّسها العازف الفرنسي جوليان جلال الدين فايس الذي توفي قبل عامين).
«لا، لا يكفي أن أقول إن حلب تُعجبني، الحقيقة أنا واقعةٌ في غرامها»، تقول ردّاً على سؤال يتحوّل إلى مفتاح لدردشة. تُعدّد سريعاً بعض ما أحبّته في المدينة العريقة «الناس، الأصالة، المباني العظيمة رغم الخراب، الطعام. أتعلم؟ في حلب اكتشفتُ أشهى بوظة في العالم، وصرت مدمنةً لها». نسأل «في العالم؟»، تجيب: «أجل، لماذا أنتم مُندهشون؟ هي ألذّ من البوظة الفرنسيّة والإنكليزيّة وحتى من الإيطالية». كاترين فنّانة تعمل في مجال التصوير الضوئي، فرنسيّة تعود أصولها إلى جنوب أفريقيا. «هذا يومي الأخير في حلب» تقول بحزن، وتضيف: «لا أصدق أنني أمضيت فيها شهراً ونصف شهر، عليّ أن أسافرَ فجراً إلى دمشق تمهيداً للعودة إلى فرنسا». تقترح لقاءً مسائيّاً في مقهى اعتادت زيارته يوميّاً لتناول البوظة والهيطليّة (حلوى تُصنع من الحليب)، قبل أن نضرب معها موعداً في الشقّة التي تقيم فيها مع مجموعة من أصدقائها الأوروبيين، بغية التعّرف إليهم جميعاً.
«تعوا نقعد في الحوش»
في مسكن بسيط هو عبارة عن دار عربيّة صغيرة في حيّ العزيزيّة تقيم كاترين وأصدقاؤها. ثلاث غرف موزّعة على طبقتين، وفناء صغير يجهد أحد الشبّان وهو يقترح ضاحكاً بعربية مكسّرة الجلوس فيه «منقعد بالحُوش؟». يبدو واضحاً أن العربيّة ستكونُ أقل اللغات حضوراً في هذه الليلة. الفرنسيّة والإنكليزيّة تتداخلان مع أصوات المولّدات الكهربائية التي باتت جزءاً من «موسيقى» الحياة اليوميّة، يمرّ في الجوار مقطع غنائي يبدو أنه قادم من سيارة عابرة «على العقيق اجتمعنا».
فنسنت، ريتشارد، وجيم. شابان فرنسيان وثالث إيرلندي، حملتهم إلى سوريا دوافع كثيرة، ورأوا في العمل مع إحدى المنظمات الإنسانيّة فُرصةً مناسبة. لا يفضلون الحديث عن منظمتهم أو عملهم لأسباب كثيرة، منها ما يتعلق بضرورة حصولهم على موافقة من إدارتهم قبل الخوض في حديث من هذا النوع، علاوة على أنهم «لا يعملون من أجل الاستعراض». في خلال دردشة وديّة يبدو جليّاً أن لدى الثلاثة هواجس كبيرة في ما يخص التعاطي مع وسائل الإعلام. نأخذ الحديث إلى مناحٍ تتعلق بشخوصهم فيتشجعون قليلاً. أحدهم كان يعمل في وظيفة مكتبية في بلاده، لكن عمله كان دون طموحاته لأنه يمضي اليوم وراء مكتب فحسب. «كنت أحلم بالسفر وتحصيل التجارب والخبرات، لكنني لا أتكلم الإنكليزية، ولا أملك المال»، ثم قرر أن العمل الانساني هو طريقه الأفضل.
يتحدث عن صعوبة القدوم بشكل شخصي في ظروف كهذه، يقول: «الفرنسيون يستطيعون القدوم إلى سوريا فقط للالتحاق بالنصرة أو داعش، أو للعمل الإنساني». يقاطعُ ضحكنا قائلاً: «أنا لا أمزح. هذا هو الواقع». نسأل: «برأيك، هل غضّت الحكومة الفرنسية النظر عن انضمام فرنسيين إلى التنظيمات المتطرفة؟» يتدخل صديقه مؤكداً أن الأمر لا يحتاج إلى آراء ولا تحليلات، يقول: «(لوران) فابيوس (وزير الخارجية سابقاً، ورئيس المجلس الدستوري الفرنسي حالياً) قال عبر القناة (الفرنسية) الأولى منذ سنوات إن مقاتلي النصرة أشخاص رائعون ويقومون بعمل عظيم في سوريا». يقول فنسنت إنه حين يتجول في حلب ويشاهد الناس ويحادثهم يخجل من القول إنه فرنسي، لأنه يعلم أن سياسات بلاده أسهمت في تأجيج الحرب. نسأله: «هل أثّرت جنسيتك في تعامل الناس معك؟ هل تظن أن الناس في حلب يكرهون الفرنسيين؟». يرد: «لا، لا أعتقد ذلك. إنه شيء غريب، حين أقابل الناس وحتى بعد أن يعرفوا أنني فرنسي يرحبون بي كثيراً، ويدعونني للدخول إلى منازلهم لاحتساء القهوة، في غرب حلب وشرقها قوبلت بالطريقة ذاتها!». يضيف: «هذا شيء غريب برأيي، خاصة أنهم يفعلون ذلك من دون أن يعلموا أنني أعمل مع منظمة تقدم الإغاثات، فقط يعرفون أنني شخص فرنسي ويرحبون بي!».
«لماذا جئت إلى سوريا؟»
نطرح السؤال ونترك لمن يرغب منهم أن يجيب. يقول ريتشارد: «في بلادي أخبار سوريا حاضرة طوال الوقت عبر التلفاز. تملكني هاجس اكتشاف الحقيقة ومعرفة ما يحصل على أرض الواقع، رغبت في معرفة ما تفعله الحرب بالناس، والمشاركة في مساعدتهم». يُسلم ابن الخامسة والعشرين بأن قدومه ينطوي على مخاطرة، لكنه يقول إن أحد الأسباب التي شجعته أن «الحكومة السورية ما زالت تبسط سيطرتها على مدن ومحافظات بقوة، لم يكن ممكناً أن أفكر في الذهاب إلى الصومال مثلاً لأن الناس يقتلون في الشوارع ببساطة شديدة والأمان منعدم بشكل شبه كلي. هنا الأمر مختلف، والمخاطر تبقى نسبية». ريتشارد سعيد بأن حبيبته ذات ملامح شرقية. يعرض صورتها علينا «انظروا.. إنها تشبه السوريات كثيراً». يرى الشاب أن «السوريات أجمل من الأوروبيات بكثير». يقول إنّ حبيبته ارتعبت من فكرة قدومه إلى سوريا لأنها تصدق الإعلام كثيراً لكنها لم تحاول منعه. يقول ضاحكاً: «لم يكن هناك الكثير من الوقت كي تحاول... خلال يومين أخبرتها ثم غادرت. هي الآن تصدقني أكثر مما تصدّق التلفاز».
لا تختلف أسباب فينسنت كثيراً «الرغبة في المساعدة» تأتي أوّلاً. قدِم إلى حلب منذ منتصف شباط، وسيمكث حتى بضعة أشهر، يتذكر برد حلب في الشتاء وقسوته «كان أقسى من برد فرنسا». أكثر ما أحبه في حلب هو الناس «إنهم لطفاء ومضيافون، عندما أمشي في أحياء غير مدمرة أنسى الحرب». بفضل عملهم مع منظمة «SOS chrétiens d›Orient» جال الشبّان بين مناطق سوريّة عدّة: صدد، معلولا، دمشق، حمص، وغيرها. يقول فينسنت: «أحببت حلب طبعاً. إنها مختلفة جداً عن حمص مثلاً، في حمص كانت الحرب في مركز المدينة وغادرها الكثيرون ولم يعد منهم إلا القليل، في بعض أحياء حمص تشعر بأنك في حيّ أشباح للأسف، وما زالت أصوات الرصاص تلعلع فيها باستمرار. في حلب شعرت بالهدوء، الوضع مختلف اليوم، الناس موجودون ويعيشون رغم كل شيء». تصل كاترين متأخرة. تعتذر بشدة لأنها ذهبت كي تودع صديقة حلبية كانت قد تعرفت إليها قبل فترة قصيرة، ولم تستطع أن تنجز الوداع سريعاً كما كانت تتخيل «أصرّت على أن نحتسي القهوة ونتناول الحلوى، وامتد الحديث. للأحاديث في حلب سحرها أيضاً».
«محظوظةٌ في حلب»
ننقل السؤال إلى كاترين: «لماذا جئت إلى حلب؟»، تضحك «لأنّني محظوظة». تعتقد كاترين أن الإعلام يروج أشياء مغلوطة عن سوريا. يدهشها اكتشاف حالات زواج عابرة للأديان والطوائف وسط الحرب. «كنت أسمع أن الحرب قائمة بين المسلمين والمسيحيين». تقول: «لا أفهم لماذا، لكن معظم الناس في أوروبا وأميركا لا يعذبون أنفسهم في البحث الحقيقي، بل يسلمون برواية واحدة. قلت: لماذا لا أبحث عن الحقيقة؟ وجئت لهذا السبب». تتحدث عن استهجان عائلتها وأصدقائها لفكرة قدومها «قالوا: أنت مجنونة، لماذا تذهبين؟ هي ليست آمنة. اليوم حين أشارك صوراً عبر مواقع التواصل الاجتماعي يرسلون رسائل متفاجئة: أوه أنت بخير! فأرد: نعم أنا آمنة جداً». تتحدث عن أصدقاء سابقين قاطعوها «قالوا إنني شخص سيئ، يتهمونني بأنني متعاطفة مع النظام وأقبض منه. هذا شيء مضحك. أنا أتحدث عن الناس، عن الحياة، وهم يصرون على تسييس كل شيء، لماذا؟ لا أفهم». يتدخل ريتشارد قائلاً: «لأن كثيراً من الناس يحبون أن يكونوا أغبياء وكسالى ولا يفكرون». تستدرك كاترين: «بعضهم يغير رأيه بمرور الوقت، منذ فترة مثلاً راسلني صديق سويدي وقال لي: أنا آسف، يبدو أنني تسرّعت». خلافاً لأصدقائها، لا تُبدي الفتاة تحفظاً في ما يتعلق بالحديث السياسي، تقول: «الحرب في بلدكم معقدة، لا أعرف بالضبط لماذا يحصل هذا في هذه المنطقة. ربما كان الأمر بالنسبة إلى أميركا يتعلق بالنفط والغاز، ربما كان يتعلق بصراع مع روسيا، ربما كان معقداً أكثر. أنا فعلاً لا أعرف». تصمت قليلاً، وتضيف: «ما أعرفه أن الحروب التي حصلت في أفغانستان والعراق وأذربيجان وليبيا لم تعد بالخير على الناس. هل تعرفون زيمبابوي؟ (روبرت) موغابي؟ (رئيس زيمبابوي منذ عام 1987) إنه دكتاتور، إذا كان الأمر يتعلق بحقوق الإنسان، فلماذا لا تتحرك أميركا وحلفاؤها هناك؟». تجيب عن أسئلتها بنفسها «لأنه لا يوجد منافع. حسناً هل حقوق الإنسان بخير في تركيا؟ هل هي كذلك في السعودية؟ في روسيا حتى؟ إذاً، لماذا سوريا تحديداً؟».
«نعرف قيمة بلادكم»
نكسر الصمت الذي ساد بعد حديث كاترين المنفعل. نقول: «لنتحدث عن البوظة مجدداً». تضحك وهي تخبرنا أنها لم تُفوّت موعد تناول الهيطليّة اليومي «أتمنى لو أستطيع تخزين طعمها. هي الأطيب في العالم كما قلت لكم». يوافقها فنسنت، لكن ريتشارد لا يوافق، يقول ضاحكاً «لدى الفرنسيين اعتزاز كبير بطعامهم ونبيذهم وبكثير من التفاصيل الأخرى، لذلك يصعب عليهم القول عن أي شيء خارج فرنسا إنه الأفضل في العالم». يقول عن البوظة في حلب إنها لذيذة، لكنه تناول أطيب منها في صدد (ريف حمص الجنوبي الشرقي). ورغم الاعتداد الفرنسي الذي أشار إليه يغامر ويقول إنها قد تكون ألذّ بوظة تناولها في حياته «هي عبارة عن حليب خالص». لا يجد ريتشارد غرابةً في قدومه إلى سوريا، بينما يهاجر كثير من أبنائها، ويحلم كثير منهم بالهجرة. «أفهمهم وأفهم أسبابهم، لكن هناك أشياء عظيمة تستحق البقاء من أجلها». يقول فنسنت: «غالباً بعد أن يسافروا سيكتشفون ذلك». تتدخّل كاترين ضاحكة «لا تريدون البقاء؟ لا تعرفون قيمة بلادكم؟ حسناً، نحن نعرف قيمتها وقد نأتي ونبقى هنا... أنا مستعدة لذلك، ومثلي كثيرون».
حلب وكاترين: معرضٌ فني وكتاب
تستعد كاترين لإقامة معرض صور ضوئية التقطتها في خلال وجودها في حلب. يقام المعرض في تموز ضمن مهرجان دولي للتصوير الضوئي في فرنسا. مشروعها التالي سيكون كتاباً عن أهل حلب. يبدو واضحاً أنها التقطت روح المدينة ببراعة. تجوّلت في مناطق عدة والتقت أشخاصاً من بيئات متباينة، صوّرتهم، وتحادثت معهم. زارت أحياءً شعبية مثل الكلاسة، وأحياءً تاريخية مثل الجلوم وباب قنسرين. أنطوان مقديس كان دليلها في خلال وجودها هنا. سيكون كافياً الإصغاء إلى الشاب الحلبي العشريني لينكشف واحد من أسباب ولعِ أصدقائه الأوروبيين بحلب. شغفه بالمدينة ليس مستغرباً لأنه سمة تحكم علاقة معظم الحلبيين بمدينتهم، لكنّ مقديس لا يبدو عاشقاً هاوياً، هو واسع المعرفة بتاريخ حلب وعائلاتها وأنماط المعيشة فيها عبر حقب مختلفة. نلتقط جملة من كلام مقديس ونحيلها على كاترين لنقف على رأيها، تقول: «طبعاً الناس هم سر العظمة هنا. أبنية حلب مهمة وعظيمة، لكن الناس أهمّ، هم يصنعون الحياة. حلب ليست مجرد متحف كبير. كلا. بل هي مجتمع عظيم». تقول: «حين أتجول في حلب لا أصبح محط أنظار وفضول لأنني أجنبية. يرحبون بي بطريقة مفرحة. رغم كل مشاكلهم يبتسمون من قلوبهم وليس مجرد ابتسامة مرسومة على الشفاه». تضيف: «المحجبات رحبن بي أكثر من سواهنّ، ولم يشعرنني بأنني مستهجنة وغريبة، هذا كان مهماً جداً بالنسبة إلي». تؤمن كاترين بأن السوريين «يحتفظون بسوريا في قلوبهم، أينما ذهبوا يتحدثون عنها ويقولون: