بعد ستّ سنوات من الحرب، فشل أعداء سوريا في انتزاع الجنوب من قبضة دمشق، مع موت مشاريع السيطرة على العاصمة انطلاقاً من درعا. وأسهمت الأجندات المتعدّدة، في فشل تشكيل جسم عسكري موحّد يصلح لاحقاً لعقد تسوية سياسية مع الحكومة السورية
تختصر التطورات الحالية على جبهات الجنوب السوري مسارات الحرب، السياسية والميدانية، والصراع المحتدم على مناطق النفوذ بين غالبية القوى المنخرطة في الصراع على الأرض السورية.
وليس خافياً أن الانخراط العسكري الأميركي المباشر في الجنوب ووجود مستشارين أميركيين وبريطانيين على الحدود السورية ــ الأردنية، زاد المشهد تعقيداً، من دون أن يغيّر في موازين القوى، ولا سيّما بعد النجاح الذي حقّقته قوات الجيش السوري وحلفائه، بالالتفاف حول الخطوط الأميركية «الحمراء» التي رسمتها واشنطن في منطقة التنف في المثلث الأردني ــ السوري ــ العراقي، وتمكن القوات من الوصول إلى الحدود العراقية، تحت أعين أجهزة الرصد والتعقب الأميركية. وبدا التسليم الأميركي بوجود الجيش وحلفائه على الحدود العراقية، مؤشّراً على خضوع واشنطن للأمر الواقع، والقبول بالجيش وحلفائه شركاء في «مكافحة الإرهاب». إلّا أن هذا التسليم، بقدر ما يطمئن السوريين يقلقهم، من احتمالات «الجنون» الأميركي باستهدافات جديدة لمواقع أو مطارات، بعد أن فقدت واشنطن دور اليد الطولى في تحديد مسارات الحرب، أمام الدور الروسي الكبير والعناد الإيراني واندفاعة الجيش للسيطرة على مساحات هائلة من جغرافيا البادية.
ويدور على أرض الجنوب، من البادية الشرقية إلى السويداء ودرعا والقنيطرة، كباش ميداني ــ سياسي كبير، يُرسم معه مستقبل التسوية السياسية والحرب على تنظيمي «داعش» و«جبهة النصرة». فضلاً عن احتمالات انتشار قوات روسية على نطاق واسع في الجنوب والجولان، لرعاية التسوية السورية في «مناطق تخفيف النزاع»، ومستقبلاً لبحث مسألة الاحتلال الإسرائيلي للجولان المحتلّ.
ويصف مصدر أمني سوري رفيع المستوى المرحلة الحالية في الجنوب بـ«مرحلة تقليم الحصص وإسقاط مشروع التقسيم»، مؤكّداً أن «صمود الجيش وحاضنته الشعبية خصوصاً في المناطق التي تخضع لسيطرة الجماعات المسلحة، منع توسّع سيطرة المسلحين وأجبر الدول الداعمة للإرهاب على التراجع خطوات إلى الخلف، والبحث عن مخارج لإعادة التواصل مع الدولة السورية».
الأردن وفصائل الجنوب المتناحرة
على مدى السنوات الماضية، فشلت الدول المعادية لسوريا في توحيد فصائل الجنوب ضمن مشروع موحّد. فتعدّد مصادر التمويل بين قطر والسعودية وغرفة «الموك» ثم دخول «البنتاغون» والـ«CIA» لاحقاً على خطّ التمويل وصولاً إلى الدور الاسرائيلي، ثم توسّع نفوذ «جبهة النصرة»، قلّص إمكانية قيام مشروع موحّد تقاتل الفصائل المسلحة تحته. وبينما كانت غرف العمليات تجمع الفصائل على قتال الجيش السوري، كانت الفصائل تعود للتقاتل ما إن تخفت حدة المعارك مع الجيش، على النفوذ وتوزيع الغنائم وتقاذف تهم التخاذل وتحميل مسؤوليات الفشل. وهذا التخبّط، الذي ساد طوال السنوات الماضية، بات اليوم أزمة مستفحلة بالنسبة إلى الدول الراعية للمسلحين في الجنوب، ولا سيّما الأردن والسعودية وقطر وأميركا، بحيث فشل أكثر من 50 فصيلاً في تقديم نموذج يصلح لخلافة دور «النصرة» العسكري في الجنوب، كما لتنظيم «داعش» الذي يسيطر على منطقة حوض اليرموك، تحت مسمّى «جيش خالد بن الوليد»، وتالياً في تكوين جهة سياسية وازنة يمكن أن تمثّل شريكاً للدولة السورية لتحقيق تسوية سياسية.
وأخيراً، لجأ الأردن إلى قطع التمويل عن مسلحي الجنوب، وبدل ذلك رفد الفصائل العاملة تحت رعايته في مثلث التنف بالدعم والأموال والسلاح، في ظلّ انكفاء هذه الميليشيات أمام تقدّم الجيش في البادية، على الرغم من الغطاء الجوي الأميركي، الذي استهدف الجيش وحلفاءه بغارات جويّة ثلاث مرّات دعماً لهذه الميليشيات. ويمكن القول إن الأردن أيضاً فشل في استمالة العشائر البدوية القاطنة في بادية السويداء الشرقية، وبينما كان يعوّل على دورها في قتال «داعش» وفرض أمر واقع على الجيش في السيطرة على البادية الشرقية، تبيّن للأردن عمق العلاقة التي تربط العشائر بالدولة السورية، وصعوبة تأليبها عليها، ما أفقد الأردن عنصراً ميدانياً وشعبياً مهمّاً في لعبة النفوذ في البادية. كذلك يجري الحديث اليوم في الأوساط العسكرية السورية، عن خطّة جديدة للجيش لتضييق الخناق أكثر على جماعات «جيش ثوار العشائر» و«أسود الشرقية»، عبر عملية عسكرية ثلاثية الأضلع من شرق السويداء ومنطقة بئر القصب باتجاه اللسان الذي تسيطر عليه هذه الجماعات. وفيما كان الأردن قبل نحو شهرين يهدّد بتدخل مباشر في الجنوب السوري وفي حوض اليرموك والحديث عن مدّ نفوذه صوب السويداء، بعد تحريض إسرائيلي حثيث بحجّة منع وجود إيران وحزب الله في الجنوب، سقطت الذرائع الإسرائيلية الأردنية أمام فشل المسلحين المدعومين من الأردن في تحقيق القوّة المطلوبة للتدخّل. وانتقل الأردن بوساطة روسية إلى التعبير عن رغبته في عودة سيطرة الجيش السوري على معبر نصيب الحدودي بين البلدين لإعادة وصل شريان اقتصادي بري شديد الأهمية بالنسبة إلى الأردن، ولا سيّما خلال اللقاءات المستمرة بين المستشارين الروس والأردنيين وبين الروس وبعض فصائل المعارضة المسلحة في عمان منذ أسابيع. إلّا أن مسألة التدخل الأردني ــ الأميركي في حوض اليرموك، تبقى رهناً بالإرادة السياسية الأميركية، في ظلّ التهديدات المستمرة لسوريا، والانقسام الكبير داخل الإدارة الأميركية الحالية تجاه التعامل مع الجيش السوري، ومخاطر الانخراط المباشر في الجنوب لتحقيق منطقة نفوذ أميركية ــ أردنية مباشرة.
وينعكس الصراع بين الفصائل المسلحة أيضاً، على المشاركة في مؤتمر أستانا المنعقد بداية الشهر المقبل في العاصمة الكازاخية. وقبل يومين، أعلن ما لا يقل عن عشرين فصيلاً، مقاطعة المؤتمر بحجج متعدّدة، لكن مصادر متابعة أكّدت لـ«الأخبار» أن السبب المباشر هو وقف الدعم الأردني لهذه الفصائل، والصراعات المحتدمة بين السعودية وقطر، في ظلّ تأثير كبير تملكه الأخيرتان على عددٍ من الفصائل في الجنوب.