تهتز الساحة السياسية الإسرائيلية بفعل ارتقاء الاتهامات الموجهة إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى مرحلة جديدة نتيجة تحول خازن أسراره ومدير مكتبه السابق، آري هارو، إلى «شاهد ملك»، وهو ما قد يوفر للشرطة أدلة دامغة تمكّنها من التوصية بتقديم لائحة اتهام رسمية ضده في العديد من قضايا الفساد والرشى.
مستقبل نتنياهو الشخصي والسياسي، بناءً على ذلك، مهدد. على هذه الخلفية، يحضر التساؤل عن إمكان أن يدفع ذلك نتنياهو إلى الهروب نحو خيارات عدوانية خارجية، بهدف «حرف الأنظار»، وإبعاد التهديد القضائي عنه. فهل لهذه الفرضية واقعية في آلية صناعة القرار الأمني في إسرائيل؟ وهل هناك سوابق تعزز أو تدفع هذه الإمكانية؟ وبعد كل ما جرى، هل يعقل أن يكون لبنان ساحة هروب لاشتباك داخلي في إسرائيل؟ مع ذلك، لا نناقش في هذه المقالة فرضية أن تبادر إسرائيل في المدى المنظور إلى شن حرب أو لا، بل تحديداً هل هناك أرضية لإمكان أن يدفع رئيس الوزراء مؤسسة القرار للجوء إلى الحرب، على خلفية الاتهامات الموجهة إليه؟ المؤكد أن لرئيس الحكومة الإسرائيلية دوراً أساسياً في صناعة القرار السياسي الأمني. إلا أن هذا الدور غير مطلق، بل يأتي في سياق مجموعة من العوامل الأخرى التي تُسهم في بلورة هذا القرار. فعلى المستوى القانوني، من يملك صلاحية اتخاذ قرار الحرب في إسرائيل، هو الحكومة ــ المجلس الوزاري المصغر.

ومن ناحية عملية، إن الشخصيات الأكثر تأثيراً، في أي قرار عسكري، واستناداً إلى التجارب السابقة، هم رئيس الوزراء ووزير الأمن ورئيس أركان الجيش. مع ذلك، إن تأثير رئيس الوزراء في صناعة القرار السياسي الأمني، لا ينحصر بصفته الرسمية وحسب، بل قد يضيق أو يتسع بلحاظ مجموعة من العوامل المتصلة بتاريخه وخبرته ومكانته في الواقع الإسرائيلي، وثقة الجمهور والمؤسسات به، وأيضاً بتناغم المؤسسة العسكرية والاستخبارية معه. ويضاف إلى ذلك حضور الموقف الأميركي كعامل رئيسي في بلورة قرار الحرب. والأهم من ناحية لبنان تحديداً، حسابات الكلفة والجدوى وثبات حضور هذه الحسابات في وعي مؤسسة صناعة القرار السياسي والأمني.
تؤكد تجارب نحو 70 سنة، أنه لم يسبق أن فرض المستوى السياسي على الجيش حرباً كان يعارضها. مع أنه من الناحية القانونية يمكنه القيام بذلك. فرض الأول على الثاني انسحابات كان يتخوف من مفاعيلها ويعارضها. وتجدر الإشارة إلى أن هذا المفهوم لا يتعارض مع حقيقة أن المستوى العسكري قد يوصي بعمليات عسكرية أو حرب، فيما المستوى السياسي يحول دون ذلك، بفعل صلاحياته.
في المقابل، قد يكون لرئيس الوزراء هامش من التأثير والفعالية ــ على خلفيات شخصية وحزبية ــ في مثل هذه الخيارات، عندما يكون هناك اعتبارات موضوعية فعلية، وتكون إسرائيل أمام مروحة خيارات من ضمنها الخيار العسكري. وأيضاً، عندما يحظى هذا الخيار بموافقة المؤسسة العسكرية. في مثل هذه الحالة، تحضر العوامل والمصالح الشخصية في بلورة موقف رئيس الحكومة. بمعنى، إن موقف رئيس الحكومة حاسم في القبول أو معارضة مثل هذه الطروحات. وإذا كانت هناك توصية ما من قبل المستوى العسكري، باتجاه خيار عسكري في توقيت يخدم نتنياهو على المستويين السياسي والشخصي، يمكن رئيس الحكومة أن يعرب عن موافقته على هذه التوصية، انطلاقاً من خلفيات شخصية. وحينها سيكون محصناً في مواجهة أي اتهام. وضمن هذا الإطار التفسيري، تحضر سوابق مثل اتخاذ قرارات بشن ضربات أو عمليات عسكرية، في توقيت سياسي أو انتخابي، كان من ضمن أهدافه تعزيز مكانة هذا الحزب أو ذاك الزعيم. مع ذلك، يمكن رئيس الحكومة أن يدفع نحو الترويج لخيار عسكري، ولكن يبقى ذلك مرهوناً بمدى نجاحه في إقناع الآخرين بذلك، وانتزاع شرعية سياسية وأمنية لهذا الخيار.
وهكذا لا يمكن استبعاد تأثير مجريات التحقيق مع نتنياهو على خلفية قراراته السياسية والأمنية. لكن من المستبعد جداً أن يتمكن نتنياهو بمعزل عن توصيات الجيش وتقديراته من الدفع نحو حرب أو مواجهة عسكرية واسعة. أضف إلى أن تأثير العمليات العسكرية على مجريات التحقيق والموقف من تقديم لائحة اتهام بحقه، يبقى محدوداً ومشروطاً بظروف القضية. ويضيق هامش هذا التأثير في حال وجود أدلة قاطعة تدينه. وفي هذه الحالة، من المستبعد جداً أن يُسهم ذلك في إنقاذه.
من ناحية نظرية، يمكن أن تُسهم الظروف الأمنية في تأجيل البت في مثل هذه القضايا (مأزق نتنياهو القضائي). وقد تُسهم في بقائه في منصبه إلى حين الحسم على المستوى القضائي. إلا أن ذلك لا يغير من خواتم هذه القضية. وفي كل الأحوال، تبقى الكلمة الفصل ــ إن لم يكن هناك حكم قضائي ملزم ــ لشركاء نتنياهو في الائتلاف الحكومي، وقبل ذلك للقيادات في حزب الليكود. وهنا تحضر سابقة استقالة رئيس الحكومة إيهود أولمرت، التي لم تكن نتيجة تقديم لائحة اتهام بحقه، وإنما نتيجة ضغط وزير الأمن في حينه، إيهود باراك، على خلفية هذه اللائحة، وهو ما أجبره على الاستقالة.
قبل كل ذلك، ينبغي إعادة التذكير بإدراك المؤسستين السياسية والأمنية للمفاعيل الخطيرة جداً لأي مواجهة مع حزب الله، على الأمن القومي الإسرائيلي، خاصة أن الجبهة الداخلية ستتحول إلى جبهة حرب حقيقية تدفع فيها أثماناً يؤكد الخبراء الإسرائيليون أنها ستكون خارج قدرة إسرائيل على التحمل. ومن المؤكد أن حضور هذا المعطى يُقيد مؤسسة صناعة القرار، ويُضيِّق هامش نتنياهو في الدفع نحو الحرب على خلفيات شخصية. بل إن أي مغامرة له في هذا المجال، قد تُسهم في تعميق أزمته وتعزيز الاتهامات الموجهة إليه على خلفية استغلال منصبه، لجهة أن ما قد يجري سيقدمه أمام أي لجنة تحقيق كمن ورط الدولة لحسابات خاصة.
في المقابل، لو كان لبنان ساحة مستباحة، ولا تخشى إسرائيل من ردود أفعال قاسية وأثمان باهظة، في حال مبادرتها إلى اعتداءات ومواجهات واسعة أو ضيقة، عندها كان يمكن، لا هذه القضية حصراً، بل الكثير من المحطات الداخلية، أن تنعكس سلوكاً عدوانياً في لبنان.
التوقع الأكثر معقولية، نتيجة تعقيدات الساحة اللبنانية ومحاذيرها، أن يجنح نتنياهو خلال المرحلة المقبلة أكثر يمينية في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية بهدف استنهاض الشارع اليميني وتعزيز التفافه حوله، وبهدف الالتفاف أيضاً على مزايدات منافسيه من اليمين الإسرائيلي، وبالتالي توفير غطاء سياسي شعبي يواجه به الإجراءات القضائية.
يتداول المعلقون والخبراء في إسرائيل مقولة لوزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، خلال السبعينيات، أنه لا يوجد في إسرائيل سياسة خارجية، بل توجد سياسة داخلية. الواضح من مضمون هذا الموقف، أنه كان رد فعل على مواقف اتخذتها الحكومة الإسرائيلية في السياسة الخارجية، لاعتبارات داخلية. لكن مفاعيل هذا المفهوم تتوقف وربما تنقلب عند حدود لبنان، حيث معادلة الكلفة والجدوى (إزاء العدوان الخارجي) هي الأرسخ حضوراً في حسابات صناع القرار الإسرائيليين. ولم تترسخ هذه المعادلة في وعي هؤلاء إلا بعد محطات مفصلية غيرت معادلات الصراع مع إسرائيل، أدت إلى سقوط رهانات وتبدد أوهام وفرض معادلات، بدءاً من اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد عباس الموسوي عام 1992، وعدوانَي تموز 1993 ونيسان 1996، مروراً بالتحرير عام 2000 ونتائج حرب عام 2006، وصولاً إلى مفاعيل الحرب السورية ونتائجها وما آل اليه حزب الله على مستوى تطور القدرات، وإدراك تل أبيب القاطع لوجود إرادة صلبة بتفعيل هذه القدرات متى تطلب الموقف ذلك.

المصدر: علي حيدر - الأخبار