تسعى أنقرة إلى تفكيك شيفرة إدلب بخطوات «محسوبة». المعادلة الدقيقة التي أرست هيمنة «جبهة النصرة» على المحافظة الشماليّة تبدو بالغة التعقيد في الموازين التركية: التخلّي عن «جبهة النصرة» من دون تحصيل ثمن كبير لا يبدو وارداً، وفي الوقت نفسه يحتاج اللاعب التركي إلى التلويح بورقة ما في «بازار الشمال» بحثاً عن حل لـ«المعضلة الكرديّة»

الجدال المستجدّ في شأن إدلب يأتي أشبه بمقدمة لإعادة توزيع القوى داخل المحافظة المحكومة بكابوس «الرايات السوداء». أنقرة التي احترفت على امتداد الحرب السورية اللعب بورقة «الجهاديين»، بدأت بترتيب الطاولة لجولة جديدة مع الحرص على الاحتفاظ بأوراق مؤثّرة تحت الطاولة.

ويبدو أن الأتراك لم يجدوا وسيلةً أفضل من الإعلام لتدشين «بازار إدلب»، من دون أن يعني ذلك بالضرورة وجوب حسمه سريعاً. ومن المفيد في هذا السياق التذكير بأنّ بحث الأتراك عن صفقةٍ مناسبة في شأن حلب كان قد استغرق قرابة عشرين شهراً حفلت بمتناقضات شتّى وبمعارك كسر عظم طاحنة قبل أن يفرض الميدان رجحان كفة دمشق وحلفائها في موازين «عاصمة الشمال». وما زالت أطياف من المعارضة السوريّة ترى حتى اليوم أنّ أنقرة قد «باعت حلب» وقبضت مقابلها غضّ طرفٍ عن احتلال أجزاء واسعة من ريفها تحت عنوان «درع الفرات». ورغم أن وسائل إعلام تركيّة قد «بشّرت» أخيراً بخطط لعمل عسكري يُعَدّ لإدلب، غير أن مؤشرات كثيرة تجعل وضع هذه الخطط موضع التنفيذ أمراً مستبعداً في المدى المنظور على الأقل. وتحدثت صحيفة «يني شفق» عن «خطة تركية لتجنيب إدلب عملاً عسكرياً وشيكاً تتشارك شنّه كلّ من الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا».
وكشفت الصحيفة عن اتصالات تجريها «جهات رسمية تركية مع المعارضة السورية والتنظيمات الفاعلة في المدينة من أجل التوصل إلى حل ينفي أسباب القيام بعملية عسكرية في المحافظة». ويشتمل المقترح التركي على ثلاث نقاط أساسية «تشكيل هيئة إدارة محلية مدنية للمدينة تتكفل إدارة شؤونها مع تحييد التنظيمات المسلحة عن إدارتها، ونقل العناصر المسلحة في المعارضة السورية إلى جهاز شرطة رسمي يتكفل بحفظ الأمن، بالإضافة إلى حل هيئة تحرير الشام». ووفقاً لما أكدته مصادر معارضة داخل إدلب، فقد شهدت المدينة بالفعل «اجتماعات مكثّفة شاركت فيها جهات عدّة لبحث المقترح التركي»، فيما قال مصدر «جهادي» لـ«الأخبار» إنّ «مسؤولين في هيئة تحرير الشام قد عقدوا جلستي مباحثات مع مندوبين للحكومة المؤقتة، وبحضور وسطاء أتراك». المصدر أكّد أن «المحادثات لم تفضِ إلى نتيجة بعد»، مشيراً في الوقت نفسه إلى أنّ «الهيئة ستتخذ القرار المناسب، من دون أن تفرّط في راية الجهاد ومقاصده». ويبدو مستبعداً رضوخ «جبهة النصرة» التي تشكّل حجر الزاوية في «هيئة تحرير الشام» لأيّ مطلب يُفضي إلى خروج محافظة إدلب من قبضتها، فيما يبدو وارداً قبولها بحل توافقي صوري لـ«هيئة تحرير الشام» يتيح لشركائها التخفّف من عبء الارتباط المعلن بها تمهيداً لانخراطهم في إدارة شؤون مدينة إدلب (وحدها دوناً عن ريفها) تحت غطاء «مدني». ورغم أن حل «هيئة تحرير الشام» سيسهم في تقليص عديد جنود الجولاني الذي يشغل منصب «القائد العسكري»، غير أنّه لا يعني المسّ بـ«النصرة» بوصفها كياناً قائماً في حدّ ذاته. وتشير معلومات أوليّة حصلت عليها «الأخبار» من كواليس إدلب إلى أنّ السيناريو المرجَّح حصوله في الوقت الراهن هو التوافق على «وضع مدينة إدلب تحت إدارة مدنيّة». ورغم أن هذا السيناريو لا يحظى برضى زعيم «النصرة» أبو محمد الجولاني ومعظم أفراد الدائرة المحيطة به، غير أنّ الجولاني مضطر إلى التعامل ببراغماتيّة مع الطرح التركي، ولا سيّما في حال حصوله على ضمانات باحتفاظ «النصرة» بما حققته من مكتسبات ميدانيّة إبّان الاقتتال الأخير بينها وبين «حركة أحرار الشام».
ويلحظ السيناريو المذكور إخلاء «النصرة» وسائر المجموعات المسلّحة مدينة إدلب من أي مظهر مسلّح، وتعهيدها إلى «إدارة مدنيّة» تحت الوصاية التركية في وضع مشابه لوضع مدينة الباب (ريف حلب الشرقي). ويمكن هذا السيناريو أن يضمن للجولاني تحصيل مكتسبات لوجستية عبر الحفاظ على حركة معبر باب الهوى الحدودي، وتزويد مناطق سيطرة جماعته (بشكل غير معلن) بنصيب من «المعونات» التي تعهّد التركي تدفقها إلى مدينة إدلب حال وضعها تحت «إدارة مدنيّة». وإذا ما قُيّض لهذا السيناريو أن يرى الضوء، فليس من المستبعد أن تكون مدينة إدلب حاضرة في واجهة جولة أستانا القادمة، التي أُرجئت إلى الشهر المقبل.
والمرجّح أن الجولاني يعي جيّداً أنّ المصلحة التركيّة لا تقتضي في الوقت الراهن الدخول في عداء حقيقي مع «النصرة» ولا التفريط بقوّتها الضاربة، ما يجعل موقفه قويّاً في التفاوض الجاري. في الوقت نفسه، ثمّة مخاوف تحضر عند الجولاني ودائرته من تكرار سيناريو حلب في إدلب التي باتت ملاذاً أخيراً لـ«الرايات السوداء». وكان اندحار «النصرة» من حلب قد بدأ فعليّاً بعد تقديمها تنازلاً تمثّل بالانسحاب من مناطق واسعة في ريف حلب الشمالي (راجع «الأخبار»، العدد 2663). وكما تشكّل إدلب ملاذاً أخيراً للجولاني وأضرابه، تحضر «النصرة» بوصفها ورقة فاعلة لا تبدو أنقرة مستعدّة للتفريط بها في المرحلة الراهنة، ولا سيّما أنّ أثمان دخول الطرفين في حرب حقيقية قد تكون باهظة. ويحتاج دخول الأتراك في معمعة من هذا الوزن إلى «ثمن كبير» يكون الحصول عليه من معسكر دمشق وحلفائها، وإلى ظروف ومعطيات لم تنضج بعد. وبدا لافتاً في خلال اليومين الماضيين أن وسائل إعلام سورية معارضة قد عمدت إلى إعادة ترويج «تسريبات» كانت قد وردت في الصحافة التركية قبل أكثر من أسبوع عن خطة تركية تحت مسمى «حبل الوريد». وتقول التسريبات إن التحضيرات دخلت المرحلة الأخيرة لتنفيذ خطة متوافق عليها بين أنقرة وموسكو وطهران عنوانها العريض «إدلب مقابل عفرين»، وتهدف «إلى تنظيف مدينة إدلب من العناصر الإرهابيين الذين يشكلون تهديداً للحدود التركية ويعملون على عزل مدينة عفرين (الخاضعة لسيطرة وحدات حماية الشعب الكردية)». وترتكز هذه التسريبات على المحادثات التي نشطت أخيراً على خط أنقرة ــ طهران، وعلى مخاطر يستشعرها الطرفان من «المد الكردي». لكنّ الوصول إلى صفقة من هذا النوع لا يبدو وارداً من دون موافقة الولايات المتحدة الحريصة على الورقة الكرديّة بما تمثله من ثقلٍ في موازين الشمال العسكريّة.

المصدر: صهيب عنجريني - الأخبار