لم يكن ممكناً والحرب في ذروتها والبعض موهومٌ بالقدرة على إسقاط الرئيس السوري، أو يضع من موقع الحياد فرص إسقاطه ضمن الاحتمالات، الدعوة للتوقف أمام مفاهيم ورؤى يمثّلها الرئيس بشار الأسد وتشكّل رؤيته الخاصة لملفات وقضايا رئيسية، تميّز بها وتفرّد بها، سواء عن معكسر خصومه حكماً، أو حتى داخل معسكر الحلفاء.
أما وأن التسليم المتتابع لدى كل متابع بأن الحرب على سورية لم تعُد قضية دولية، ولا قوة إقليمية تملك ما يكفي لو أرادت لإبقائها مشتعلة وبالأهداف ذاتها، وأن الأفق بات مفتوحاً أمام تعافي الدولة السورية وقيامتها، وأن مكانة الرئيس الأسد في قلب سورية الجديدة محسوم، فصار التعرف إلى المستقبل يستدعي من الصديق والخصم والباحث المحايد العودة للبحث بما يمن به ويطرحه ويتبناه ويفكر فيه، هذا الرئيس الذي سيعود منتصراً بعد حرب تُعتبر بنظر الكثيرين، حرباً عالمية ثالثة، أو حرب القرن، أو حرب استيلاد نظام عالمي جديد، وشرق أوسط جديد، طالما أن لاعباً حاسماً على مسرح الأحداث سيكون هذا الرئيس المنتصر.
والمقصود هنا نظرة الرئيس الأسد لسورية وللمنطقة، وهما الساحتان اللتان سيصعب تخيّل صياغة جدية لهما بمعزل عن تفحّص رؤية الأسد والتمعُّن في مدى ملاءمتها لاستيعاب الوقائع المعقدة والمتشابكة، من جهة، أو مدى قدرتها على التأقلم مع المتغيّرات التي تعاكسها وتشتغل ضدها.
سيندهش أي باحث أو سياسي جدي عندما يعود لقراءة نصين تحديداً، واحد يخص رؤية الرئيس الأسد لكيفية خروج سورية من الحرب، وعلاقة الحرب بالحل السياسي، وبرنامجه لسورية بعد الحرب، وهو مضمون ما ورد في خطابه مطلع عام 2013 تحت هذه العناوين. والثاني يخصّ رؤيته للمنطقة وشكل النظام الإقليمي الذي يسعى إليه ويضع مقدرات سورية وعلاقاتها لتسويقه، وهو ما قاله عن مشروع منطقة البحار الخمسة في العام 2009.
في النص الأول سيكتشف القارئ عندما يعيد القراءة الآن أن نصّ عام 2013 الذي أطلقه الرئيس الأسد كمبادرة للحل السياسي يقوم على ثلاث ركائز لم تكن ملحوظة حتى في مقاربات الحلفاء الأشدّ قرباً من سورية والأكثر قوة والأعلى متابعة للمبادرات السياسية وهما روسيا أولاً وإيران ثانياً، وقد كانت كل الطروحات تتخيّل آلية تقوم على توظيف موازين القوى السياسية والعسكرية لبلورة توافق دولي وإقليمي ينتج حواراً سياسياً، يتوّج بحكومة موحّدة توقف الحرب بين مكوناتها، وتضع خطة لدستور جديد وانتخابات على أساسه. وكذلك كانت كل الطروحات في تلك الفترة تعتبر الإرهاب ومكافحته مهمة من مهام الحكومة الموحّدة لاعتبارها الحرب الأوسع والأكبر تدور بين مناصري المعارضة والجيش السوري، بينما تقوم مبادرة الرئيس الأسد على منح الأولوية للحرب على الإرهاب، والسير جنباً إلى جنب بالمصالحات والتسويات الموضعية في كل منطقة بشروطها وظروفها الخاصة مع الجماعات المسلحة، وصولاً لحسم نسبي مع الإرهاب يفتح الباب بالتوازي للتوافق الدولي والإقليمي، ولحوار سياسي مع واجهات سياسية لا تملك قوى حقيقية في الميدان، لكنها ضرورات لتسوية يتلطى وراءها اللاعبون الدوليون والإقليميون لتبرير الخروج من الحرب التي كانوا وراءها لإسقاط سورية.
واللافت حجم التفاصيل الدقيقة التي أوردها الرئيس الأسد في مبادرته ومدى تطابقها اليوم مع ما يجري، سواء بصيغة مناطق التهدئة، أو ما سيجري غداً عندما يأتي وقت المصالحات وحكومة ما قبل الانتخابات، وحكومة ما بعد الانتخابات، وكيفية استيلاد دستور جديد، وإجراء الانتخابات.
في النص الثاني، وهو الأول من حيث الأسبقية، أطلق الرئيس الأسد دعوة فريدة لنظرية تخصّه وحده، عنوانها تشكيل منظومة تعاون اقتصادي أمني، بين دول منطقة البحار الخمسة، المتوسط والأحمر والأسود وقزوين والخليج (الفارسي)، بالرغم من الخلافات السياسية، لضمان الاستقرار، بما في ذلك المصالح المشروعة للدول الكبرى كضمان تدفق سلس لموارد الطاقة، وتضمن رفع مستوى التكامل الاقتصادي بين المشاركين فيها.
والأهم أنها تملأ الفراغ الاستراتيجي الناشئ عن هزيمة المشروع الأميركي الذي قام على الحروب، وفشل في فرض الهيمنة، ومنعاً لوقوع المنطقة في فخاخ الفوضى والإرهاب، ومواجهة لمخاطر الحروب الأهلية والفتن ومشاريع التقسيم. وهذا كله وارد في رؤية الرئيس الأسد، التي جاءت قبل عامين على الربيع العربي وما تلاه من ظهور للمخاطر التي حذّر منها ودعا لاستباقها بمنظومة إقليمية عابرة للأحلاف السياسية المتقابلة التي تقف على رأسها كل من موسكو واشنطن.
والمنظومة التي تضم وفقاً لطرح الرئيس الأسد تركيا وإيران والسعودية ومصر وسورية والعراق والجزائر، قادرة على التعاون مع الاتحاد الأوروبي، ومع مجموعة البريكس، وتأمين استقرار حوض جغرافي واسع وحساس وخطير.
وليس خافياً أن تركيا والسعودية كانتا الفريقين الرئيسيين اللذين أغراهما مشروع الفوضى الأميركي «الإسرائيلي» لإسقاط سورية، فتموضعا على ضفاف الحرب عليها. وها هما في ضوء ما نراه ونسمعه، تسيران بسرعة بعكس الاتجاه الذي طبع سياستهما خلال السنوات الماضية. فتركيا التي طمعت بحكم العالم الإسلامي بعثمانية جديدة وسلطنة صارت ترتضي كفّ شر ولادة كيان كردي على حدودها، بعدما عبثت بالمكوّنات وها هي تنال العقاب وتلاحقها للعنة. والسعودية التي أرادت تأسيس نظام عربي تحت زعامتها بالتخلّص من الرئيس السوري ها هي ترهن ممتلكاتها ومكانتها، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، للتخلّص من جار صغير بحجم قطر، والخروج بأقلّ الخسائر من حرب مع جار هزيل كحال اليمن، بعدما تجاهلتا معاً قيمة الجغرافيا والديمغرافيا وعبثتا معهما، ولعبتا لعبة الروليت الروسية باختبار الطلقة الواحدة والرأس لتكتشفا أن الطلقة في المسدس تنفجر برأسيهما، رغم كل ادعاءات القدرة والتخطيط والحسابات.
ستحمل السنوات المقبلة فرصاً وافية للتدقيق في ماهية الصيغة السياسية التي ستعتمد لطي صفحة الحرب في سورية، وماهية النظام الإقليمي الجديد، وسيكتشف الكثيرون حجم التطابق مع الرؤى الاستشرافية المبكرة للرئيس السوري، وحجم العمق الفكري والاستراتيجي الذي يختزنه هذا الرئيس. عسى هذا أن يفسّر للبعض بعض أسرار نصر سورية وصمودها.