اغرب ما في مناورة الفيلق الشمالي لجيش العدو أنه يناور لرفع مستوى استعداداته لمواجهة حزب الله. وفي الوقت نفسه، قادته وجنوده مسكونون في أعماقهم بعدم إمكان هزيمة الحزب. والمفارقة أن هذا الاقتناع الذي عبَّر عنه قادة المناورة، يأتي بعد نحو خمس سنوات من قتال حزب الله للجماعات التكفيرية في الساحة السورية التي كان يفترض، وفق الرهانات الاسرائيلية، أن تستنزفه وتضعفه، لكنه تحول بنظر قادة جيش العدو أنفسهم إلى جيش أكثر احترافاً وتصميماً
بدأت إسرائيل مناورة فيلقية هي الأولى من نوعها، منذ 19 عاماً، على حدودها الشمالية. ومع أن المناورة تأتي في سياق مهني عسكري، وترجمة لإحدى مراحل خطط رفع مستوى الجاهزية والاستعداد، إلا أنه يغلب عليها التوظيف السياسي، وهو ما حضر في مقاربة وسائل الاعلام الاسرائيلية، بشكل بارز.
في هذا الإطار، حرص العديد من التقارير الاعلامية على تقديم المناورة كما لو أنها تعبير عن انتقال الجيش من مرحلة الردع الى الحسم في أيّ مواجهة قد تنشب بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله.
وبلحاظ الظروف السياسية الاقليمية الحالية، باتت إسرائيل أحوج ما تكون الى رسالة بهذا الحجم، في ضوء الإقرار بفشل رهاناتها وخياراتها التي اعتمدتها في مواجهة حزب الله وسوريا، خلال السنوات الماضية. وتجسدَ ذلك في مروحة التقارير التي بثّها العديد من المعلقين العسكريين. لكن الرسالة ــ الهدف بدت أكثر ظهوراً في مقالة المعلق العسكري في صحيفة هآرتس عاموس هرئيل، الذي أكد أن حزب الله يعلم باستعدادات الجيش للمناورة، ومن المتوقع أنه سيحاول بكل ما يستطيع حل ألغاز خطط الجيش واكتشاف قدراته. أضاف أن «إسرائيل تريد استغلال المناورة من أجل توجيه رسالة ردع لحزب الله». على هذه الخلفية، بات واضحاً أن إسرائيل وقعت في فخ المبالغة في الدعاية على حساب المهنية التي كان يفترض أن الجيش الاسرائيلي يتمتع بها. لكن بهدف تحسين الصورة، وتحصين مناعة الجمهور الاسرائيلي، يصبح كل شيء مباحاً.
مع ذلك، وفي أعقاب تحقق أحد اسوأ السيناريوات التي لم تكن تتوقعها للمشهد الميداني السياسي في سوريا، انقلبت إسرائيل على المقولة التي دأبت على الترويج لها خلال السنوات الماضية، بأن وضعها الاستراتيجي بات أكثر مناعة وقوة من أي مرحلة سابقة. واستندت في هذا التقدير الى تراجع الجيوش النظامية المحيطة بها، إما بفعل اتفاقيات التسوية (مصر والاردن) أو نتيجة الحروب التي شهدتها الساحتان السورية والعراقية. لكن مناورة الفيلق الشمالي تجسد انقلاباً حاداً على هذا التقويم الاستراتيجي، وتهدف إلى الاستعداد للتهديدات التي تؤكد أنها ستصبح أكثر تسارعاً في المرحلة المقبلة، نتيجة انتصار محور المقاومة في سوريا والمنطقة. وهو ما حضر في خلفية تلميح المعلق العسكري لصحيفة هآرتس، الذي رأى أن «مناورة الفيلق الشمالي تعكس عدداً من التحولات التي شهدتها الحدود الشمالية خلال العقد الماضي».
تحاكي مناورة الفيلق الشمالي، التي تعتبر إحدى أكبر المناورات في تاريخ الجيش الاسرائيلي، حرباً شاملة في مواجهة حزب الله، يشارك فيها 30 ألف جندي نظامي واحتياطي. وتستمر، بحسب القناة الثانية في التلفزيون الاسرائيلي، 11 يوماً، وتحمل اسم «نور هدغان» في إشارة الى اسم رئيس الموساد السابق «مئير دَغان» الذي كان قائد الفيلق الشمالي. وآخر مناورة فيلقية أجراها الجيش كانت في عام 1998. تشارك في المناورة عدة فرق عسكرية ونحو 30 لواءً وعشرات السفن وطائرات سلاح الجو.
ومع أن الهدف المعلن للمناورة، كما أشارت قنوات تلفزيونية إسرائيلية، هو هزيمة حزب الله، إلا أن المعلق العسكري في القناة العاشرة في التلفزيون الاسرائيلي، أور هيلر، أكد نقلاً عن قادة المناورة أن أجوبتهم لم تكن قاطعة حول إمكان هزيمة حزب الله، وسلبه إرادة القتال. واستناداً الى ذلك، تساءل هيلر حول إمكان إلحاق هزيمة بمنظمة «هجينة» تقوم على الفكر الديني. ووضع عدة مستويات لمفهوم هزيمة حزب الله، متسائلاً حول معنى ذلك؛ هل تعني هزيمته المفترضة تصفيته كفكر، أو كمنظمة أو كلاعب في لبنان؟
بدا واضحاً أن وسائل الإعلام الاسرائيلية تحولت الى بوق دعائي للمناورة، التزاماً بالصورة التي حرص الجيش على تظهيرها.
لكن المعلق العسكري في القناة العاشرة، الذي أكد أنه اطّلع على خطط المناورة، عاد وأكد في تقريره أنه لا يستطيع القول «ما إذا كان المستوى السياسي سوف يأمر الجيش في الحرب القادمة بضرورة هزيمة حزب الله». ولفت الى أن لهذا الامر أهمية كبيرة، كونه «يُحدد مدة بقاء الجيش الاسرائيلي في لبنان». ويمكن التقدير أنه قصد بذلك أنه لا يمكن هزيمة حزب الله بحرب خاطفة، بل سيتطلب ذلك من الجيش الاسرائيلي أن يبقى في لبنان مدة طويلة، وهو الذي سبق أن جرّبته إسرائيل ولم تنجح فيه.
في ضوء ما تقدم، يصبح مفهوم النصر الذي يناور الجيش لتحقيقه، كما حدّد قائد الفيلق الشمالي اللواء تايم هيمن، أكثر غموضاً، خاصة أنه على المستوى النظري قد ينطبق على مروحة واسعة من الاهداف والنتائج التي يمكن أن تتحقق، بدءاً من إلحاق الأضرار المادية المحدودة المفاعيل، وصولاً الى الحسم العسكري الذي تجهد إسرائيل لإعادة إحيائه على مستوى الخطاب السياسي والدعائي.
في المقابل، لفت المعلق السياسي في صحيفة يديعوت أحرونوت، يوسي يهوشع، الى «أنهم في الجيش الاسرائيلي لا يتحدثون عن حرب لبنان الثالثة، بل عن حرب الشمال على الجبهتين السورية واللبنانية»، وهو ما يؤكد حضور التطورات الميدانية والسياسية التي شهدتها الساحتان السورية والاقليمية في خلفية قرار مناورة بهذا الحجم. ويعزز ذلك أيضاً التقدير إزاء مستوى التهديد الذي بات أكثر حضوراً وتجذّراً في وعي صنّاع القرار السياسي الأمني في تل أبيب.
في السياق نفسه، نقل موقع يديعوت أحرونوت عن أن هناك في الجيش الاسرائيلي مَن يصف حزب الله بأنه «الجيش الاقوى في الشرق الاوسط بعد الجيش الاسرائيلي»، موضحاً أن «حزب الله قادر على إدارة معركة على مستوى لواء، مع استخدام الطائرات المسيّرة الهجومية، وجمع المعلومات الناجعة عبر الدمج مع الأنفاق والكهوف الهجومية، وتفعيل نيران مدفعية الى جانب استخدام الدبابات وكذلك تجميع قوات مدربة بسرعة بحجم 4000 مقاتل خلال فترة زمنية قصيرة في منطقة التجمع، كما فعل في إحدى عملياته الأخيرة ضد داعش». وكشف الموقع بذلك عن حجم متابعة الجيش الاسرائيلي للمعركة التي خاضها حزب الله ضد داعش، والدلالات التي انطوت عليها على المستويين العملاني والتكتيكي. ويأتي هذا التقويم امتداداً لتقديرات سبق أن كشفها قادة عسكريون وخبراء إسرائيليون لفتوا فيها الى أن حزب الله تحول بعد مشاركته في القتال على الاراضي السورية الى جيش أكثر احترافاً وقوة وخبرة.