أنشئ مفاعل «ديمونا» النووي الإسرائيلي في خمسينيات القرن المنصرم، وكان مقرراً له التوقف عن العمل بعد 40 عاماً. لكنّا في عام 2017 والمفاعل الذي تشوبه آلاف الأعطاب لا يزال «شغّالاً»، كما أنه «لن يتوقف عن العمل في المدى المنظور». التصريح الأخير صدر رسمياً، ولأول مرّة، عن وزير السياحة في حكومة العدو
انتهجت إسرائيل سياسة «الغموض» النووي طوال عقود خلت. فكل ما قيل عن امتلاكها رؤوساً نووية يمكن إطلاقها حتى مسافات تبلغ 1500 كيلومتر باستخدام صواريخها المسماة «أريحا»، أو حتى عن القنبلة النووية التي يمكن إلقاؤها من الجو، بقي طي الكتمان على ألسنة الرسميين في المستويين الأمني والسياسي.
باستثناء ما كشفه الخبير النووي الإسرائيلي مردخاي فعنونو، وحدها «زلّة لسان» رئيس الوزراء السابق، إيهود أولمرت، لإحدى القنوات الألمانية كشفت رسمياً عن أن إسرائيل دولة نووية. «هل يمكنكم أن تقولوا إن الأمر متساوٍ عندما يتطلع الإيرانيون إلى امتلاك أسلحة نووية مثل أميركا وفرنسا وإسرائيل وروسيا»، هكذا «أخطأ» يومها أولمرت. حتى إن هناك من طالبه بالاستقالة «كونه كشف سراً من أسرار الأمن القومي».
لكن أمس، بدا الأمر «مختلفاً»، إذ صرّحت حكومة العدو رسمياً، لأول مرّة، على لسان وزيرها للسياحة، وعضو لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، ياريف ليفين، بأنها «لا تنوي وقف النشاط في المفاعل النووي في ديمونا مستقبلاً». وذلك بالرغم من أنه أقدم مفاعل نووي في العالم، ويشوب المعدن الذي بني منه لب المفاعل 1537 خللاً، كما كشفت صحيفة «هآرتس» العبرية في نيسان من العام الماضي.
تصريح ليفين هو بمثابة الرّد الذي أتى متأخراً عاماً ونصف عام، على سؤال عضو الكنيست ياعيل كوهين - باران، من «المعسكر الصهيوني». والأخيرة كانت قد قدمت استجواباً طالبت من خلاله بالإجابة عن سؤال «متى سيتوقف العمل في مفاعل ديمونا؟». إذ جاءت مساءلتها بعد التقرير الذي أوردته «هآرتس» عن الأعطاب التي تشوب المفاعل.
بحسب الصحيفة العبرية، أنشئ المفاعل بمساعدة فرنسا في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي. هذه باتت «معلومة» قديمة «بقدر» أقدمية المفاعل نفسه. الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله، تطرق إلى الموضوع في ذكرى القادة الشهداء في شباط الماضي، قائلاً «أنا اليوم... أدعو العدو الإسرائيلي ليس فقط إلى إخلاء خزان الأمونيا في حيفا، وإنما أيضاً أدعوه إلى تفكيك مفاعل ديمونا النووي».
يومها تابع السيد مخاطباً العدو وجمهوره: «هم لديهم معلومات كافية عن هذا المفاعل بأنه عتيق وقديم ومهترئ»، ممازحاً بالعامية «خالص كازو». فهو بحسب نصرالله، وبناءً على المعلومات المنشورة في الصحف العبرية، «لا يحتمل ولا يحتاج إلى جهد صاروخي كبير وضخم، وهم يعلمون أيضاً أنه إذا أصابت الصواريخ هذا المفاعل ماذا سيحل بهم، وبكيانهم وحجم المخاطر التي يحملها إليهم».
لكن إسرائيل لا تزال متمسكة بـ«ديناصورها» الاستراتيجي، ولم تحذُ حذو «العروس الفرنسية». ففي فرنسا، أغلق مفاعلان مماثلان من حيث الأقدمية لـ«ديمونا» عام 1980، علماً بأن أقدم مفاعل في فرنسا لا يزال يعمل حتى الآن قد أنشئ سنة 1977. ومن المقارنة التي أوردتها «هآرتس»، يتبيّن أن في المكسيك أيضاً مفاعلاً أقيم في عام 1969، لكن من المقرر إغلاقه بعد عامين.
وبالعودة إلى رد ليفين، يتضح أن إسرائيل، بشكل علني، تفضل «المعايير الأمنية» على حساب سلامة مواطنيها. فقد كتب في رده بصراحة أنه «لا يوجد زمن أقصى محدد لنشاط المفاعل. استمرار العمل فيه يسير بمعايير أمنية مهنية صارمة». هو رد رسمي إذاً يشير في مضمونه إلى أن وقف عمل المفاعل ليس في نيّة إسرائيل، وإنما الاستمرار فيه سيكون حتى «أطول أجل ممكن». فقد زعم الوزير نفسه أن «فحص المفاعل بواسطة الموجات الصوتية هو جزء من عملية صيانة صارمة، لم تشر بشكل واضح إلى وجود مشكلة في المفاعل تلزم بوقف العمل فيه».
في غضون ذلك، علّقت النائبة عن «المعسكر الصهيوني» على كلام الوزير، ساخرةً من الأداء الإسرائيلي للقضايا الأمنية الحساسة.
وقالت إن «قضية الغواصات عرّت أمامنا صورة الإدارة المعطوبة التي تحصل عند اتخاذ قرارات مهمة مخفية عن الجمهور، تحت ذريعة السرية الأمنية». وتساءلت «كيف يتوقف العمل في المفاعلات النووية في العالم بعد 40 عاماً، في حين لا يوجد عمر أقصى للمفاعل في إسرائيل؟»، مضيفةً «ما هي وسائل الحذر المتبعة؟ اكتشف العلماء 1537 عطباً في لبّ المفاعل... كيف إذاً يضمنون ألا يتعرض الجمهور للخطر؟».
النائبة كوهين أكدت أنها «لم تحصل على أي إجابة تتصل بهذه القضايا الشائكة»، معتبرةً أن «الأداء الذي يفتقر إلى المسؤولية هو سبب الكوارث التي تحصل في كل مرة». واستشهدت بمثال «تسرب النفط، أو قضايا الفساد التي تحول حتى اللحظة لإيجاد حل حاويات الأمونيا في خليج حيفا... ودائماً لا أحد يتحمل المسؤولية».
وتابعت: إن «تذرع الحكومة بأمن الدولة، بينما يصاب العاملون في المفاعل بالسرطان الواحد بعد الآخر... أمر غير معقول»، متساءلة «ماذا مع باقي سكان ديمونا؟». لتجيب بنفسها مستنكرةً «من يعرف ماذا قد يتكشف لاحقاً؟». وللمفارقة، فإن قضية تعويض مئات العمال المصابين بالسرطان جراء عملهم في المفاعلات النووية الإسرائيلية المختلفة قد أقرّت أول من أمس فقط. وذلك بعدما طالب العمّال والباحثون المرضى على مدى عقود الدولة العبرية بتعويضهم.
وفي السياق، قالت «هآرتس» إن مسألة نشاط وأمن المفاعل النووي في ديمونا «تعتبر إشكالية بالنسبة إلى إسرائيل». إذ بحسبها «لا تتوفر القدرات المالية والسياسية لبناء مفاعل نووي جديد بدلاً من ديمونا»، بدليل أن «اللجنة الإسرائيلية للطاقة الذرية تستثمر موارد كثيرة للحفاظ على المفاعل القائم».
والجدير بالذكر أن موقع «ويكيليكس» كان قد كشف في السابق عن أن إسرائيل أبلغت الأميركيين باستبدال كل أجهزة المفاعل، باستثناء لبّه المعدني المغلف بالاسمنت «والذي لا يمكن استبداله». أمّا مسؤولو اللجنة للطاقة الذرية الإسرائيلية فيعتبرون بدورهم «أن تقادم المفاعلات النووية هو فرضية من الماضي تفتقر إلى الأساس العلمي»، حيث «بالإمكان إطالة أجل المفاعل وتشغيله لمدة تتخطى الـ 40 عاماً».