أضفت تطورات دير الزور تعقيدات جديدة على العلاقة بين دمشق و«قسد»، وسط تصعيد بين القوتين العالميتين المنخرطتين في الصراع (موسكو وواشنطن). جاءت سيطرة «قسد» أخيراً على واحد من أهم معامل الغاز في الشرق الأوسط «كونيكو» لتنذر بتصعيد محتمل في سياق السباق على منابع الطاقة في الشرق السوري. ويزيد من تشابك المشهد تزامن هذه التطورات مع إجراء «الإدارة الذاتية» انتخابات في مناطقها، تزامنت بدورها مع معمعة استفتاء إقليم «كردستان العراق»
في مطلع عام 2015 كان دبلوماسي أوروبي يؤكد في جلسة خاصة ببيروت أنّ «ظروف التسوية السورية لم تنضج بعد». لم يكن الكلام مفاجئاً حينها، ولم يستغربه أحدٌ من الحاضرين. لكنّ أبرز ما حضر في كلام الدبلوماسي وقتها كان مرتبطاً بالملف الكردي السوري. «راقبوا تطورات هذا الملف، وحين تسمعون عن مسار سياسي تُدعى إليه كل الأحزاب الكردية الفاعلة اعلموا أنّ هذا المسار جدي وواعد».
وقتها كان النشاط العسكري للوحدات الكرديّة (ypg) دفاعيّاً. معركة عين العرب (كوباني) كانت قد انتهت قبل فترة قصيرة، واستغرق الأمر بعدها قرابة عشرة أشهر لإعلان تأسيس «قوّات سوريا الديمقراطيّة» التي شكلت «الوحدات» عمودها الفقري، وتحوّلت إلى ذراع برية لـ«التحالف الدولي» بقيادة واشنطن. مع نهاية معركة عين العرب كانت مساحة سيطرة ypg تقارب 12 ألف كيلومتر مربع فحسب، ومع إعلان ولادة «قسد»، كانت مساحة سيطرة الأخيرة نحو 15 كيلومتراً مربعاً، لكنها تمدّدت في آذار الماضي إلى قرابة 38 ألف كيلومتر مربع، ثم إلى نحو 43 ألف كيلومتر مربع حتى منتصف الشهر الجاري (23% من مساحة سوريا تقريباً). بينما تؤكد مصادر قيادية في «قسد» لـ«الأخبار» أن «حجم السيطرة الفعلية اليوم قد تجاوز 30% من الأراضي السورية». مرّت العلاقة بين دمشق و«قسد» بمنعطفات كثيرة، لتختبر اليوم ذروة جديدة من التوتر في أعقاب الدخول السريع لـ«قسد» على خط معركة دير الزور وسيطرتها أخيراً على معمل غاز كونيكو بما يمثله من أهمية استثنائيّة (رمزيّاً واقتصاديّاً). ورغم أن قوات الجيش السوري كانت قريبة إلى حد كبير من المعمل المذكور، وأن مصادر عدة قد تحدثت عن انطلاقة وشيكة للجيش نحوه، غير أنّ المتحدث الرسمي باسم «قسد» يرفض إدراج السيطرة عليه في إطار «تحدي دمشق» أو ضمن سياق «السباق على منابع الطاقة». يقول طلال سلو لـ«الأخبار» إنّ «معمل كونيكو يقع ضمن المناطق التي أعلنّا حملة لتحريرها: شرق الفرات وضمن مناطق عاصفة الجزيرة» ويضيف: «عندما أطلقنا الحملة كان الجيش السوري غرب الفرات، ونحن لم نتسابق معه». يستبعد المتحدث أن تتطور الأمور في دير الزور إلى حد الصدام مع الجيش السوري، ويقول: «موقفنا واضح، نحن ضد تشتيت القوى ومع تسخيرها للقضاء على الإرهاب، ولاحقاً لذلك يمكن إطلاق عملية سياسية للبحث في مستقبل سوريا». ينفي سلو وجود أي حديث على هذا الصعيد في الوقت الراهن، ويقول: «طالبنا باستمرار بأحقيتنا في الوجود على طاولات المفاوضات، لكن حتى الآن لا شيء على هذا الصعيد، مع أننا معارضة الخنادق الحقيقية، ونحارب الإرهاب ونحن الأحق في الحضور على هذه الطاولات». يرى المصدر أن «كل ما يحصل حتى الآن هو أشبه بتمثيليات تحت مسميات مختلفة مثل أستانا أو جنيف، وليست منصات للبحث عن مستقبل حقيقي لسوريا».
يؤكد المتحدث أنه «لا نيات لدينا لتسليم المعمل لدمشق، كل المناطق التي حررناها لم نسلمها لأي طرف، فلماذا هذا المعمل بالذات؟»، ويضيف: «كل المناطق التي نحررها تُسلَّم لهيئات مدنية، اليوم (أمس) شُكِّل مجلس دير الزور المدني وسيتسلم المعمل من ضمن المناطق التي تم تحريرها. فيما سيتسلمها عسكرياً مجلس دير الزور العسكري، وطبعاً ضمن إطار الإدارة الذاتية». ولم يصدر تعليق رسمي عن دمشق حتى الآن على تطورات دير الزور، وفضّل مصدر دبلوماسي تحدثت إليه «الأخبار» عدم الخوض في حديث التطورات العسكرية، لأن «كل ما يتعلق بالشأن العسكري يصدر عادة بنحو مدروس على لسان الناطق العسكري أو عبر بيانات رسميّة». التزامن بين سيطرة «قسد» على معمل كونيكو والمضي في إجراء «انتخابات الكومينات» في مناطق سيطرتها يبدو كفيلاً بتعقيد المشهد أكثر، فما وصفته دمشق قبل فترة بـ«المزحة» أصرّت «قسد» على القول إنه واقع. لكنّ مصدراً سورياً بارزاً يصف الأمر بأنّه «تفصيلٌ جانبي». يقول المصدر لـ«الأخبار» إنّ «التعامل مع الأحداث بتعجّل هو مقتلٌ يصرّ الكثيرون على الانجرار إليه». يُذكّر المصدر بالمشهد قبل سنوات حين «راهن الجميع على سقوط دمشق نفسها في قبضة الإرهابيين» ويضيف: «فليتفضلوا ويسمعونا صوتهم اليوم». لكن هل يُعَدّ هذا الكلام تهديداً لـ«قسد»؟ نسأل المصدر الذي يمتنع عن إسباغ أي صفة على كلامه، ويكتفي بالقول: «نخوض حرباً طويلة منذ سنوات في سبيل وحدة سوريا واستقلالها، ولن تنتهي المعركة إلا بتحقيق هذين الهدفين المقدّسين». وربّما بدت خطوة «الانتخابات» صغيرة في ظاهرها، نظراً إلى أنّها أشبه باختيار أعضاء جدد في إدارة محليّة فحسب، غير أنّ ارتباطها بـ«مسار» يؤكّد «مجلس سوريا الديمقراطية» المضيّ في تنفيذه حتى النهاية يُكسب الخطوة أبعاداً إضافيّة. وتنص خطط هذا المسار على إجراء «انتخابات مجالس المدن والمقاطعات في الثالث من تشرين الثاني المقبل، وانتخابات الأقاليم وبرلمان الفيدرالية في العام القادم» وفقاً لمحمد جميل «عضو إدارة إيالة قامشلو لحزب الاتحاد الديمقراطي/ PYD». («الإيالة» تقسيم إداري، و«قامشلو» هي التسمية المعتمدة كرديّاً لمدينة القامشلي السورية). ويقول جميل لـ«الأخبار» إنّه «لا تراجع أبداً عن الخطوات التالية، التراجع انتحار بعدما قدمنا آلاف الشهداء». ويضيف: «المنطقة تمرّ بمرحلة انتقالية حيث الفوضى والفراغ، فلا بد من ملئه، والأفضلية لمن يملك تنظيماً ومشروعاً». يرى المصدر أن هذ المشروع «يهدف إلى الوحدة لا التقسيم كما يُشاع، الدول الإقليمية هي التي قسمت سوريا على أسس طائفية، ونحن لا نقبل بالتقسيم، لكننا نرفض النظام المركزي». لكن «الفدرلة» لا تبدو خياراً مرحباً به لدى دمشق، ولا سيّما في ضوء التطورات الإقليمية التي تجعل من نموذج «كردستان العراق» تجربةً غير مشجّعة وسط إصرار الأخيرة على الانفصال عن العراق. ويبدو لافتاً التزامن بين موعد الاستفتاء الذي تعتزم أربيل إجراءه اليوم، وموعد «الانتخابات» التي أجريت في مناطق سيطرة «قسد» قبل يومين. ورغم أنّ السياسي الكردي ريزان حدو يستبعد أن يكون التزامن «مبرمجاً»، غير أنه يوافق على أن هذا التزامن «ربما أسهم في حدوث نوع من التعاطف مع الاستفتاء في أوساط الأكراد السوريين». يرى حدو أن «هناك عاملاً أشد خطورة يسهم في تحول مواقف شريحة من الأكراد السوريين من تجربة أربيل، وهو التجييش العرقي الذي تصاعد في الفترة الأخيرة من كل الأطراف». ويضيف: «كانت مواقف الأكراد السوريين سابقاً منقسمةً بين مؤيد لعبد الله أوجلان (زعيم حزب العمال الكردستاني) ومؤيد لمسعود برزاني (رئيس إقليم كردستان العراق)، لكن اليوم يمكن أن نلحظ تعاطفاً في صفوف الطرفين مع أربيل وميلاً إلى التعاطي مع الاستفتاء بوصفه قضية كرديّة عامة». وهو أمر يعدّه حدو «انعكاساً للتجييش المتزايد، وهناك خشية من تفاقم هذه الانعكاسات لتؤثر في المصلحة الوطنية السورية، ومن هنا تبرز حاجة ملحّة لفتح حوار وطني علني ومباشر بين دمشق وقسد اليوم قبل الغد». يختم السياسي المقرّب من «وحدات حماية الشعب» بالقول إنّ «موقف أكراد سوريا ينبغي أن يكون على أساس أن الاستفتاء شأن عراقي، وحتى لو وصلت الأمور حد الصدام بين بغداد وأربيل، لكن الأمر قد يختلف إذا تدخلت قوة عسكرية إقليمية مثلاً». لا يبتعد المتحدث الرسمي باسم «قسد» عن هذه الرؤية، ويزيد عليها التأكيد أن «مناطق سيطرة قسد في سوريا هي مناطق تضم مكونات عدة ويديرها كيان يضم تلك المكونات». يقول سلو لـ«الأخبار» إنّ «الاستفتاء شأن عراقي، ووضعنا مختلف». ويضيف: «كل مكوناتنا موجودة ضمن كيان واحد لا كيانات منفصلة، والطرف الكردي لا يعمل من أجل كيان كردي، بل نسعى معاً لنكون جزءاً من سوريا موحّدة، ولكن مع تغيير نمط الحكم من مركزي إلى فيدرالي».