لم يكن قرار محمد بن سلمان بإجازة قيادة المرأة للسيارة مفاجئاً للمراقبين، بقدر ما مثّل نقطة تحوّل حاسمة في إيضاح جدية مضيه في مشروع التغيير الاقتصادي والاجتماعي في السعودية. تحوّلٌ يصطدم بالبنية الاجتماعية التاريخية للمملكة، ويعلن الانحياز الواضح إلى التيار الليبرالي على حساب التيار الوهابي المتشدد، كجسر عبور إلى «سعودية جديدة» بنسختها الرابعة تحتفظ لعرش ابن سلمان بضمانتي الرضى والوكالة الأميركيتين، أو ما يعتبره نظام الرياض «مكتسبات» الالتصاق بواشنطن، عبر تبديد كل الهواجس الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لكنه في الوقت عينه يزرع في صحراء الجزيرة العربية بذور انفجار في أجل مسمى، على وقع ما يخلقه من تناقضات اجتماعية وثقافية
«هذا ليس بعجيب إذا وقع من عدو متربص بهذا البلد الذي هو آخر معقل للإسلام يريد أعداء الإسلام أن يقضوا عليه. ولكن هذا من أعجب العجب إذا وقع من قوم مواطنينا ومن أبناء جلدتنا يتكلمون بألسنتنا ويستظلون برايتنا، قوم انبهروا بما عليه دول الكفر من تقدم مادي دنيوي فأُعجبوا بما هم عليه من أخلاق تحرروا بها من قيود الفضيلة إلى قيود الرذيلة».
ذلك ما رد به يوماً ابن عثيمين، كبير مشائخ الوهابية، الحائز جائزة «الملك فيصل العالمية في خدمة الإسلام»، على المحاولين التشكيك في فتاوى المؤسسة الوهابية السعودية والمحرِّمة بشكل قاطع قيادةَ السيارة على المرأة. فتاوى ابن باز وابن عثيمين، وفتاوى أخرى محاكية، هي «فخر الصناعة» الوهابية ومن أبرز العلامات الفارقة في منهاجها تاريخياً، ضرب بها جميعها محمد بن سلمان، عرض الجدار، ببضع كلمات ممهورة بالختم الملكي.
لم تأت إجازة الأخير، بتوقيع والده الملك سلمان بن عبد العزيز، استحصال النساء السعوديات رخص قيادة السيارة استجابة للمطالب والحملات التي لا عدّ لها ولا حصر رفضاً للحظر الأوحد في العالم.
شكّل الإعلان «التاريخي» محطة مفصلية في سياق مشروع «السعودية الجديدة» الآخذة عجلاته بالتسارع في الأشهر الماضية. بإمكان المراقب أن يلحظ بضع نقاط لافتة وبالغة الحساسية بين سطور «الأمر السامي»، تمكّن من تجلية خطورة الخطوة وما قد يستتبعها من خطوات، أو ينجl عنها من مآلات.
إقصاء آل الشيخ
إنه بمثابة الإعلان من قبل ولي العهد السعودي عن بلوغ «الحرب الباردة» مع جناح آل الشيخ ذروتها. الأمر السامي كان واضحاً ومباشراً في التصويب على المؤسسة الدينية وتحجيمها وإيصال رسالة لها بضرورة مواكبة «إصلاحات» ولي العهد: ممنوع الوقوف أمام برنامج «التحول»، أو التفكير في الاعتراض تحت مبرر الاتفاق التاريخي على حصر القرار الديني بيد آل الشيخ، مهما بلغته هذه «الإصلاحات» من مراحل أو تجاوزت من «خطوط حمراء». وللمعترضين أخذ العبرة من حملات التوقيف والاعتقال المتواصلة. وتلك رسالة أولى أوصلها ابن سلمان بداية، أفهمت الجناح الديني أن الأمير الشاب مستعدّ للذهاب حتى النهاية، إن كان ثمة من لديه تفكير بالاعتراض. وكانت رسالة ثانية في احتفالات العيد الوطني قبل أيام، حين جرى جسّ نبض الشارع والتيار الديني بمشهد حفلات الموسيقى والرقص المختلطة «المستفزّ».
يكاد صاحب «رؤية 2030» هنا يقولها صراحة: إنها «السعودية الرابعة». سعودية لن يكون فيها لآل الشيخ مكان كشركاء لآل سعود، يحافظ على حصتهم من النظام عبر السلطات الثقافية والاجتماعية، رعاية للمتعاهد عليه تاريخياً منذ اتفاق المحمدين (محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب)، الذي روعي مع قيام دولة الملك المؤسس عبد العزيز (السعودية الثالثة).
كل الإجراءات السابقة على وصول الملك سلمان في سبيل تحجيم سلطات آل الشيخ، لم تأخذ بُعد «الطلاق» بين العائلتين. المسألة اليوم ذات منحى مغاير، فبالعودة إلى الأمر الصادر عن الملك السعودي، نقرأ: «لكون الدولة هي - بعون الله - حارسة القيم الشرعية فإنها تعتبر المحافظة عليها ورعايتها في قائمة أولوياتها سواء في هذا الأمر أو غيره، ولن تتوانى في اتخاذ كل ما من شأنه الحفاظ على أمن المجتمع وسلامته»، حدد الأمر السامي إذاً صلاحية رعاية «القيم الشرعية» بالدولة، بجناحها السياسي «سواء في هذا الأمر أو غيره». لم يقتصر الأمر على تجميد صلاحيات هيئة «كبار العلماء»، بل تعداه إلى منازعة هذه الصلاحيات في الفقرة السابقة على النص أعلاه، والتي تضمنت محاججة فقهية غير مباشرة خلصت إلى «إفتاء» الملك بجواز قيادة المرأة للسيارة: «نشير إلى ما يترتب من سلبيات من عدم السماح للمرأة بقيادة المركبة، والإيجابيات المتوخاة من السماح لها بذلك مع مراعاة تطبيق الضوابط الشرعية اللازمة والتقيد بها. كما نشير إلى ما رآه أغلبية أعضاء هيئة كبار العلماء بشأن قيادة المرأة للمركبة من أن الحكم الشرعي في ذلك هو من حيث الأصل الإباحة، وأن مرئيات من تحفظ عليه تنصب على اعتبارات تتعلق بسد الذرائع المحتملة التي لا تصل ليقين ولا غلبة ظن، وأنهم لا يرون مانعاً من السماح لها بقيادة المركبة في ظل إيجاد الضمانات الشرعية والنظامية اللازمة لتلافي تلك الذرائع ولو كانت في نطاق الاحتمال المشكوك فيه».
إن كانت القضية بهذا الوضوح فلماذا لم تصدر فتوى صريحة من المؤسسة الدينية قبل إصدار القرار؟ الأمر ليس بهذه البساطة، تقول كتابات مشائخ الوهابية واستدلالاتهم، التي أفضت، بعد نقاشات مستفيضة، إلى الفتاوى الصريحة بتحريم قيادة المرأة، والتشديد على أن لا فرق عملياً هنا بين الحرمة لـ«سد الذرائع» (يقصد بالذريعة الوسيلة والباب لـ«ارتكاب المحرم لذاته») و«التحريم أصالة».
مع ذلك، فإن إعطاء الملك السعودي ونجله «مخرجاً» لهيئة «كبار العلماء»، يبقي الباب مفتوحاً على القبول بدور محدود لجناح آل الشيخ، إذا ما ارتضوا تدخلات أوسع للجناح السياسي، ومواكبة رؤية ولي العهد لمستقبل المملكة، على أسس أكثر ليبرالية و«علمانية» اجتماعية.
ردة فعل الجناح الديني
لا أحد يتوقع من جناح المتشددين المعارضين للقرار موقفاً مباشراً وسريعاً، أو جرأة مفاجئة على النظام السياسي خلاف المعهود من تبرير أعمال «ولي الأمر» وشرعنتها ومباركتها. فعلى الرغم من حساسية القرار الأخير، إلا أن المؤسسة الدينية التي تمثلها «كبار العلماء» ردت بالمعتاد من عبارات المباركة والتأييد والتبرير لفتوى «ولي الأمر»، ما يعني أن هذا الجناح لا يزال ينحني مع العاصفة، وأن الأمور لم تأخذ بعد منحى التصادم. وأصدرت «هيئة كبار العلماء»، أمس، بياناً لاحقاً لأمر الملك أكدت فيه التزامها سياسة الإذعان والرضوخ للسلطة السياسية. وتضمن البيان فتوى شرعنت أمر الملك سلمان، ونوّه «بهذا الأمر السامي الكريم، الذي توخى فيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود - أيده الله - مصلحة بلاده وشعبه في ضوء ما قررته الشريعة الإسلامية». وذكّر البيان بأن «ولي الأمر يختار في كل قراراته الأصلح والأنفع والأيسر»، وأن الملك «بما قلّده الله من مسؤوليات في رعاية مصالح بلاده وشعبه، وحراسة قيمه الإسلامية، ومصالحه الشرعية والوطنية؛ لا يتوانى في اتخاذ ما من شأنه تحقيق مصلحة بلاده وشعبه في أمر دينهم ودنياهم».
لكن على المديَين المتوسط والبعيد، ماذا لو ضاقت خيارات المؤسسة الدينية لتكون القضية قضية حياة أو موت، وتتالت جولات ابن سلمان ضدها. جولات بدأت العام الماضي مع تقليص صلاحيات هيئة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (لم يعد رجال الهيئة يملكون صلاحيات ضابطة أمنية أو عدلية ويكتفون بتسجيل المخالفات)، وإطلاق «هيئة الترفيه» وبرامجها التي تستهدف تغيير البيئة الثقافية المحافظة. فلا يمكن بعد الآن استبعاد توسع الجفاء بين الجناحين الديني والسياسي وتأسيس هذه التناقضات لساعة «طلاق» أو صدام إن امتلك الجناح الديني أدوات للمواجهة.
مشروع ابن سلمان: الدوافع والأفق
يبدو ابن سلمان يسير في استراتيجية التدرج. يعتمد في مواجهة الجناح الديني المحافظ ما اتبعه بوجه خصومه داخل الجناح السياسي، أي ولي العهد السابق محمد بن نايف، وهي استراتيجية تقوم على محاصرة الخصم وتجريده من أوراق القوة قبل الانقضاض عليه، والأخذ بالإجراءات تصاعدياً وخطوة خطوة. أسلوب العمل هذا ساعد الرجل على تجنب الصدام المباشر وإنجاح مشروعه حتى الآن، بغض النظر عن زرع أكثر من فتيل لخلافات قد تتفجر مستقبلاً. وهو ظهر في الآونة الأخيرة مستعجلاً التغيير، منذ قمة دونالد ترامب في الرياض، يوم وعد وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، الكونغرس بأنه سيلمس تغييراً ثقافياً يطاول الفكر الوهابي المتطرف، إلى حد تغيير المناهج الدينية المعتمدة. والجدير ذكره هنا أن ابن سلمان، وقبل أشهر فقط، اعتبر أن المجتمع السعودي لا يزال غير متقبل لقيادة المرأة للسيارة.
صحيح أن المطالب الأميركية حاضرة في مشروع ابن سلمان، لكن لا يمكن اختزال دوافعه بضغوط واشنطن فقط. فالرؤية التي يبشر بها فريقه تظهر قناعة لديه بضرورة «التحول الوطني» لكونه بات حاجة على مختلف الصعد، وقناعة بلزوم السير خلف نصائح ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد، باعتماد العلمنة الاجتماعية (وهو ما أكده سفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة) كسبيل لتحقيق الرؤية الاقتصادية الجديدة والاطمئنان إلى ثبات الوكالة الأميركية في يد الرياض وعدم تخلي واشنطن عن السعوديين تحت تأثير الفوارق الأيديولوجية ووطأة الاتهامات بتغذية الفكر المتطرف، خصوصاً في مرحلة حساسة يتهيأ فيها ابن سلمان للتربع على عرش المملكة.
هذه الدوافع لمّح إليها شقيق ولي العهد، وسفير السعودية في واشنطن خالد بن سلمان، بالقول إن «السماح للمرأة بقيادة السيارة خطوة كبيرة. وهو ليس فقط تغييراً اجتماعياً وإنما جزء من الإصلاح الاقتصادي»، وأضاف: «القيادة السعودية تعتقد أن هذا هو الوقت المناسب لهذا التغيير لأن بالسعودية مجتمعاً شاباً وحيوياً ومنفتحاً».
ماذا في الأفق؟ بالتأكيد لا أحد لديه الجواب الحاسم لتحديد إلى أين تسير المملكة، في جوّ يبدو فيه الثابت الوحيد أن لا ثابت في النظام السعودي، بما في ذلك الأفكار الدينية، وأن كل شيء قابل للتغيير وفق مصالح الرعاة في الخارج، والعائلة الحاكمة في الداخل، ما يبقي المراقبين في حال انتظار لأوامر جديدة، يرجح أن يكون أولها انتقال ملف التطبيع مع إسرائيل إلى العلن.
«هيئة الأمر بالمعروف» تتحسّس رأسها
تترقب هيئة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» جلسة لمجلس الشورى، لم يحدد تاريخها بعد، للنظر في مصيرها بعد توصية من أعضاء في المجلس لدمجها في وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد.
وأجّل مجلس الشورى، الاثنين الماضي، جلسة لمناقشة مصير الهيئة، على أن يُناقَش الموضوع في الأشهر الثلاثة المقبلة. وقالت وسائل إعلام سعودية إن التأجيل جاء بعد محاولات من أعضاء المجلس للحؤول دون مناقشة التوصية. وهذه هي المرة الأولى التي يصل فيها الجناح المتشدد، وذراعه الرسمية (هيئة الأمر بالمعروف)، إلى هذا المستوى من التراجع في النفوذ داخل المملكة، إلى درجة النقاش في أصل وجود الهيئة المذكورة، والتي لطالما شكلت اليد الرقابية الساهرة على تطبيق التعاليم الوهابية في المجتمع وملاحقة المواطنين لالتزام ضوابطها المتشددة.
وقد انقسم الشارع بنحو حاد على خلفية الموقف من حل «الهيئة»، وفيما عبّر كثيرون عن تأييدهم لهذا التوجه، شنّ آخرون حملة اعتراض شرسة على مواقع التواصل الاجتماعي ضد مشروع الحلّ، مع العلم أن الهيئة فقدت في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز الجزء الأكبر من صلاحياتها.