عندما اجتاح الإعصار "هارفي" ولاية تكساس، لم تضيع نعومي كلين أي وقت لتشخيص "الأسباب الجذرية الحقيقية" التي كانت وراء الكارثة، فأشارت إلى "التلوث المناخي، والعنصرية المنهجية، ونقص تمويل الخدمات الاجتماعية، والإفراط في تمويل الشرطة". وبعد يوم من نشر مقالها، قال جورج مونبيوت إن أحداً لا يريد توجيه أسئلة قاسية عن الفيضان الساحلي الذي انتشر خلال الإعصار "هارفي"، لأن القيام بذلك سينطوي على الطعن في الرأسمالية- النظام المقترن بـ"النمو الدائم على كوكب محدود" -وبالتالي التشكيك في جوهر أسس "النظام السياسي والاقتصادي برمته".
من بين الخيارين، أميل للتصويت لصالح تأويل مونبيوت. فقبل أربعين عاماً تقريباً، كتب المؤرخ دونالد فورستر في دراسته الكلاسيكية عن واحدة من أسوأ الكوارث الطبيعية في تاريخ العالم، العواصف الترابية التي (ضربت أميركا وكندا في الثلاثينيات -الثلاثينيات القذرة- وتسببت في حدوث جفاف عام)، كتب أن الرأسمالية، التي تصوَّرها على أنها ثقافة اقتصادية تأسست على تعظيم الضرورات والتصميم على معاملة الطبيعة كأحد أشكال رأس المال "كانت العامل الحاسم في استخدام هذه الأمة للطبيعة".
لا يجب أن يذهب الانتباه إلى تصور الرأسمالية كظاهرة غير زمنية. إن للرأسمالية تاريخا. وذلك التاريخ مهم إذا أردنا أن نشخص بشكل مناسب ما حدث مؤخراً في تكساس وما هو على وشك الحدوث عندما ينقض الإعصار إيرما على فلوريدا. وما تمس حاجتنا إلى فهمه هو الكيفية التي استطاعت من خلالها الرأسمالية إعادة إنتاج نفسها منذ "الركود العظيم"، وإنما بطريقة وضعت أعداداً هائلة من الناس وكميات كبيرة جداً من الممتلكات في طريق الضرر على طول القطاع الممتد من تكساس إلى نيو إنغلاند.
كان إنتاج المخاطرة قد بدأ خلال حقبة ما تسمى في بعض الأحيان الرأسمالية المنظمة، في الفترة ما بين الثلاثينيات وأوئل السبعينيات. وقد تضمن هذا الشكل من الرأسمالية الذي له "وجه إنساني" تدخل الدولة لضمان وجود حد أدنى من الحرية الاقتصادية، لكنه قاد الحكومة الفيدرالية أيضاً إلى بذل جهود هائلة للسيطرة على الطبيعة. ويحتمل كثيراً أن تكون الدوافع قد بدت نقية إلى حد كبير. لكن الجهود التي بذلت للسيطرة على عالم الطبيعة، على الرغم من أنها عملت في المدى القريب، تشرع في أن تبدو غير ملائمة للعالم الجديد الذي نسكنه راهناً. فقد بنى جهاز المهندسين الكبير في الجيش الأميركي خزانات للسيطرة على الفيضانات في هيوستن، تماماً مثلما بنى هياكل أخرى للسيطرة على المياه خلال الفترة نفسها في نيو أورليانز وجنوب فلوريدا. وقد أرست هذه المساعي الكاسحة للسيطرة على المياه أرضية العمل لتنمية عقارية ضخمة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
على طول الساحل من تكساس إلى نيويورك وما وراءها، قام القائمون على التنمية بردم الأراضي الرطبة لإفساح المجال أمام المزيد من البناء وصنع غطاء أرضي أكثر مناعة. لكن التنمية على حساب المستنقعات والمياه ما كانت لتحدث أبداً لولا مساعدة الدولة الأميركية. وكان الفيضان المدمر في هيوستن في العام 1929 و1935 قد أمليا على مهندسي الجيش بناء سدَّي أديكس وباركر. وترتبط بهذين السدين شبكة ضخمة من القنوات -التي تمتد اليوم إلى أكثر من2000 ميل- لشفط المياه من الأرض وإتاحة المجال أمام هيوستن، التي تملصت من التقسيم، للازدهار خلال حقبة ما بعد الحرب.
كما تكشفت القصة نفسها في جنوب فلوريدا. وكان إعصار ضرب المنطقة في العام 1947 قد تسبب في أسوأ فيضان ساحلي يحدث خلال جيل، والذي ترتب عليه الإسراع في تدخل فيدرالي جاء على شكل مشروع فلوريدا الوسطى والجنوبية. ومرة أخرى، عكف المهندسون على العمل في تحويل الأرض. وفي نهاية المطاف، صنعوا نظام قنوات لم تم وضعها واحدة في نهاية الأخرى على طول الطريق من مدينة نيويورك إلى لاس فيغاس، فإنها ستقطع كل الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة. وكانت حياة أكثر من خمسة ملايين نسمة يعيشون بين أورلاندو وفلوريدا لتكون صعبة التصور من دون هذا التمرين الذي لا يضاهى في السيطرة على الطبيعة.
ليس الأمر ببساطة أن المطورين جرفوا الأراضي الرطبة بتجاهل متهور في فترة ما بعد الحرب. كانت الدولة الأميركية هي التي مهدت الطريق أمام تلك التنمية من خلال مراكمة الاكتتاب الخاص.
كان الإسمنت هو الوسيط المفضل للدولة الرأسمالية. ولكن، مع تصاعد منسوب الفيضانات في الستينيات من القرن الماضي، تحولت الدولة إلى تبني مناهج غير هيكلية، والتي كان القصد منها إبقاء المياه بعيدة. وكان أشهر برنامج على أساس هذه الخطوط هو برنامج التأمين الوطني ضد الفيضان، الذي تأسس في العام 1968، وهو إصلاح ليبرالي خرج من رحم "المجتمع الكبير". وكانت الفكرة هي أن تشرف الحكومة الفيدرالية على برنامج تأمين مدعوم لأصحاب المنازل، وفي المقابل سوف تفرض الدولة والبلديات المحلية تنظيمات لإبعاد الناس والممتلكات عن طريق الضرر.
وفي الوقت نفسه الذي أطلقت الحكومة الأميركية برنامج التأمين الوطني ضد الفيضان، سوف تنشأ أزمة كينزية لتمتد على مدار العقد ونصف العقد التاليين. ونجم تراجع الشركات عن ارتفاع الأجور وتصاعد الصراع الطبقي وازدياد حدة المنافسة من اليابان وأوروبا الغربية، وتصاعد التنظيم الاستهلاكي والبيئي. وتضافر تقلص الأرباح مع تضخم الركود والمشاكل المالية واسعة الانتشار لإنتاج تشوش اقتصادي كبير.
شرع شكل جديد من الرأسمالية في الظهور بوتيرة بطيئة عندما استجاب النشاط التجاري للأزمة. وحدث تغير مؤسساتي رئيسي في الاقتصاد العالمي، في العلاقة بين رأس المال والعمل، والأكثر أهمية بالنسبة لموضوعنا هنا، حدث تغير في دور الدولة في الحياة الاقتصادية. في وقت مبكر من سبعينيات القرن الماضي، تم تأسيس "الطاولة المستديرة للنشاط التجاري" كمجموعة ضغط مشتركة. وكان من بين مهماتها تقويض أشكال مختلفة من القوانين الاستهلاكية والبيئية.
كان هذا هو سياق الهجوم على برنامج التأمين الليبرالي ضد الفيضان. ومع حلول تسعينيات القرن الماضي، وفي عهد إدارة كلينتون، تم استبعاد التظاهر بتنظيم استخدام الأرض على المستوى المحلي لصالح سياسة شجعت البلدات ببساطة على فعل الشيء الصحيح لضمان سلامة الناس والممتلكات. ولم يكن من قبيل المصادفة أن واحداً من مشاريع التنمية الأكثر تضرراً في هيوستن -ساذرن كينغوود- كان قد بني في الأعوام الأخيرة من القرن العشرين، وصممت وكالة إدارة الطوارئ الفدرالية خطة للفيضانات لمائة عام مقبلة.
ليس هناك طبيعي على الإطلاق في كيفية أداء المدن في الولايات المتحدة بعد الحرب كمواقع مربحة لمراكمة رأس المال. وما يزال القائمون على التنمية قادرين على جني الأرباح من التحديث الرأسمالي في المواقع الساحلية بفضل ما كان من الناحية الفعلية معونة ضخمة من الدولة الأميركية.
يشكل العبث مع الكارثة بأحد المعاني جوهر الرأسمالية النيو-ليبرالية ، وشكلاً مفرط النشاط من هذا النظام الاقتصادي الاستغلالي الذي يبدو أنه لا يعرف حدوداً. وقد يجد البعض السلوى في كلمات ألكسندر كوبيرن: "إن رأسمالية تزدهر أكثر ما يكون على اللاعادي، أو على الكوارث، هي انحطاط بالتعريف".
يشعر آخرون، وأنا منهم، بالقلق من أن التنظيم الراهن لاقتصاد السوق لإفادة مصالح الرأسماليين، بإيمانه الطوباوي الأعمى بآلية السعر، يرجح أن يمضي تحديداً في الاتجاه الذي كان المؤرخ الاقتصادي كارل بولاني قد تنبأ به في العام 1944. وقد حذر في حينه من أن ترتيباً مؤسساتياً منظماً حول "سوق تعدل نفسها ذاتياً لا يمكن أن يوجد لأي فترة من الوقت من دون إفناء الجوهر البشري والطبيعي للمجتمع؛ وسيكون قد دمر الإنسان مادياً، وحول محيطه إلى قفر".

 

تيد شتاينبيرغ - (كاونتربنتش) 8/9/2017

ترجمة: عبد الرحمن الحسيني

المصدر: الغد