هذا القرار تجسيد يكشف عن استبداد السلطة وسيطرتها على كل مفاصل الحياة، وأنها هي وحدها المسؤول الأول والأخير, وليست التعليمات الدينية أو الأعراف الاجتماعية, عن هضم جميع حقوق الشعب بكل فئاته وعناصره نساء ورجالاً،،،

ترسخ خلال عقود منصرمة في فكر الشعب السعودي أن موانع كثيرة تحول دون عملية الإصلاح السياسي, ولا يمكن بحال من الأحوال القفز على تلك الموانع أو تجاوزها, لأن وظيفة أي سلطة سياسية معنية بالتوازنات داخل أي مجتمع تحكمه، أن تحافظ عند قيامها بعملية الإصلاح, الذي يمثل حاجة ملحة للفرد والمجتمع على حدٍّ سواء, إلى مراعاة الأبعاد الدينية والأعراف الإجتماعية فلا تقوم بإقرار أمر يكون مخالفاً لبعد ديني أو يمسّ عرفاً إجتماعياً فلا يتقبله الشعب، لأن ذلك يعد تجاوزاً على قيمه التي يلتزم بها, وتكليف السلطة بالحفاظ عليها.

فعندما تتعدى أي سلطة على إقرار أمر يُعتبر محظوراً في عرف أي شعب، سيؤدي إلى نتائج عكسية وسلبية في آن، وفي هذه الحال لن تكون عملية الإصلاح إلا خروج من مشكلة ودخول في أخرى، وسيدفع حتماً ضريبتها الشعب والسلطة على حدٍّ سواء وخصوصاً إذا علمنا أن مجتمعاً ما تغلب على تركيبته سمة القبيلة، فالحكومات تولي هذا الجانب مراعاة خاصة فتعمد إلى ممارسة عملية الإصلاح بشكل تدريجي يرضخ إلى ديناميكية ثابتة لها أسسها الدينية التي تراعي جانبها الاجتماعي والقبلي ولا يمسّ بالأخلاقيات العامة للمجتمع.

ولكن الملفت لأي مراقب هو النظرة إلى عملية استصدار قرار السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة داخل المملكة، والذي كان يُعدّ من المحرمات التي تقارب الكبائر في الفكر السائد، أو هذا ما أرادت السلطة ترسيخه لعقود عبر الآلة الإعلامية والدينية، وبين عشية وضحاها تغيرت الموازين وثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن كل مصائب بلادنا وتأخر عملية الإصلاح تكمن في إرادة السلطة السياسية وحقيقة مدى رغبتها في الإصلاح من عدمه، وهل إنها كانت صادقة في دخول معترك الميدان الإصلاحي وممارسة التغيير من الأعلى للأسفل أو لا؟؟

والمؤكد أن ذلك ليس له علاقة لا بالدين ولا بالأعراف الإجتماعية ولا بالقبلية حتى، والتي طالما بررت بسببها السلطة عدم اقتحام لجة الإصلاح وتخلت عنه وأوهمت الشعب أن هنالك تعقيدات في تركيبة المجتمع تحول دون فرض قرارات إصلاحية داخل المملكة.

فبعد نضال مرير للناشطات طيلة السنوات الفائتة وبمبادرات نسوية لم تكد تتوقف طوال 30 عاماً، عبّرت عنها تلك الناشطات بأشكال مختلفة وشهدت تمرّداً على قرارات المنع, فتصدت لها السلطة ممثلة بالملك وواجهتها بعنف فاعتقلت على أثرها الكثير من السيدات ومورس ضد أولياء أمورهن ضغوطات كبيرة شملت توقيفات وأخذ تعهدات وغرامات مالية.

ولكن عندما أرادت السلطة السياسية الظهور أمام الرأي العام الدولي في الخارج بمظهر المصلح واحتاجت لتقديم صورة أمام العالم تشير إلى سعيها لممارسة الإصلاح وإضفاء طابع إعلامي يُوحي بتغيير حتى ما رسّخته عند شعبها انه من المحرمات، حينها فقط شاءت “إرادة الفرد الأحد مالك الملك”!! وتم إستصدار القرار الذي لم يراعٍ وقتها كل ما كانت تتدع به من أسباب مانعة لدخول ميدان الإصلاح والتغيير، فلم تكترث لرأي رجال الدين ولا لنظر الأعراف الإجتماعية ولا القبلية، بل قلبت الإسطوانة وتحول الأمر في طرفة عين من دولة تضطهد المرأة في أبسط حق من حقوقها وهو قيادتها للسيارة إلى كون ذلك القرار بالسماح لها بالقيادة يعبر عما توليه المملكة من رعاية بحقوق المرأة!!

هكذا وبقدرة قادر أصبح مَنْ كان ضد السماح للمرأة بقيادة السييارة, يتبنى التأييد المطلق, وأضيف هذا القرار الي إنجازات العهد الجديد, وجنّدت الآلة الإعلامية الضخمة ومن خلفها الصحافة والصحفيون ورجال الدين إلى جوقة تطبيل تتحدث وتردد: أن هذا القرار من مفاخر المملكة!

وفي الحقيقة ما هذا القرار إلا تجسيد يكشف عن استبداد السلطة وسيطرتها على كل مفاصل الحياة، وأنها هي وحدها المسؤول الأول والأخير, وليست التعليمات الدينية أو الأعراف الاجتماعية, عن هضم جميع حقوق الشعب بكل فئاته وعناصره نساء ورجالاً..

هذا القرار اليوم خطوة مهمة وفي الطريق الصحيح, ولكن إذا لم تُستتبع هذه الخطوة بخطوات وقرارات تشكل حاجة أكثر إلحاحاً وتشمل الإصلاحات السياسية والاقتصادية، وفتح ملفات شائكة كالعدالة الإجتماعية وتوزيع الثروات وتجريم السياسة الطائفية ومحاربة الفساد المالي والإداري ومعالجة خطاب التطرف في بعده الفكري والسلوكي الذي ينخر في أجهزة الدولة الرسمية وإغلاق ملفات حساسة جداً كملف السجناء السياسيين وإلغاء أحكام الإعدام الظالمة بحق الكثير منهم، فستبقى هذه القرارات شكلية لدغدغة بعض المشاعر ولا ترقى أو تلامس مضامين التطلعات والآمال العريضة للشعب ولن تعالج الأزمات المتفجرة داخل المجتمع، وسيضل المسؤول الأول والأخير في وصول البلاد إلى هذا الحضيض المتراكم منذ نشوء كيان بن سعود والذي نعيشه حتى هذه الساعة هي إرادة الفرد الطامح للحكم محمد بن سلمان وتركيبة عصابته الحاكمة في نجد.

ختاماً.. هذه رسالة هامة إلى الشعب مفادها ضرورة الإستمرار في المطالبة بالحقوق وعدم التوقف, فعندما تتلكأ الحكومة في الاستماع لصوت الناس والاستجابة لمطالبهم الحياتية والمعيشية وإيجاد آلية واضحة لإقرار دستور ناظم للعلاقة بين النظام وشعبه, فعلى الشعب أن يواصل نضاله وكفاحه دون توقف, فعجلة التغيير ليست رهن إرادة ومزاجية الحاكم وحاشيته، كما أن على الشعب الأخذ بالأسباب الموصلة لفرض مطالبه في التغيير والإصلاح لسياسات النظام على المستويين الداخلي والخارجي.

المصدر: ياسر الخياط ـ خاص مرآة الجزيرة