لم تكد مؤسسة "الفرقان" التابعة لتنظيم "داعش" تنتهي من نشر التسجيل الصوتي لـ"أبي بكر البغدادي" حتى أعلنت منابر إعلامية تابعة للتنظيم عن إطلاق غزوة "أبي محمد العدناني"؛ المسؤول الإعلامي السابق للتنظيم الذي قُتل في ريف حلب قبل عام.

توقيت وحجم "الغزوة" الجديدة على جبهات دير الزور وفي ريفها قد يشير إلى أن كلمة البغدادي كانت مجهزة للبث بالتزامن مع الهجوم لأهداف دعائية، خاصة أن الجيش السوري وحلفائه، بمساندة من الطيران الروسي، استطاعوا خلال الساعات القليلة الماضية من استيعاب الهجوم على أكثر من محور على الرغم من ضراوته إلى درجة ربما تدل على أن "داعش" راهن رهانًا كبيرًا على نجاحه بحسب ما تشي به الإمدادات والمفخخات وأعداد المقاتلين الذي دفع بهم في هذا الهجوم.

الأجواء التي عكستها صوتية البغدادي في أوساط مسلحي "داعش"،  تفيد دلالاتها بأنّ التنظيم قد انتقل تمامًا من استراتيجية الاحتفاظ بالأرض إلى استراتيجية استنزاف الخصم، بعد تقييمه لسير المعارك إثر خسارته الموصل تحديدًا.

فالكلمة التي امتدت لستة وأربعين دقيقة وشكلّ الخطاب الديني التعبوي المضمون الأكبر منها، قد فعلت فعلها في معنويات مقاتلي التنظيم، إذ ركزت تعليقاتهم على الاحتفاء بها وكان لافتًا أن السواد الأعظم منهم لم يكن على علمٍ حقيقة بمصير البغدادي بعد تقارير سابقة عن مقتله.

لكن المحاور السياسية الرئيسية في كلمة البغدادي تعكس جملة مؤشرات محيطة بالتنظيم ومساره ومصيره:

أولًا؛ حرص البغدادي على إعادة التذكير في بداية كلمته بـ"إنجاز" إزالة الحدود مع بداية ظهورها قبل سنوات ليتابع في سرد السياق الذي مرّ به التنظيم في مواجهة "حكومات الكفر"، قبل أن يقفز إلى الحديث عن فقدان أميركا لمكانتها كقوة أولى في العالم "ما جعل روسيا تستغل ضعف امريكا" للتحكم بالملف السوري. ولئن كان نقد أميركا هو العنوان البارز في هذه النقطة إلا أنّ تفسيره للتقدم الروسي هو الهدف الذي بنى عليه لاحقًا لوصف حال الشام، في محاولة أقرب إلى تبرير تراجع تنظيمه منها إلى سرد الوقائع.

ثانياً، على الرغم من انتقاده اتفاق "آستانة" إلا أنّ البغدادي لم يميز بين الفصائل المشاركة في العملية السياسية وبين جبهة "النصرة" التي تعارض حتى الساعة في العلن التفاوض. وكان لافتًا أن الكثير من تعليقات مسلحي "داعش "التي تلت كلمة زعيمهم، انتقدت بشدة ربط بعض المحللين "غزوة العدناني" بمعركة حماة التي أطلقتها "النصرة" قبل ايام. وقد كان كلام البغدادي جازمًا في الدعوة لـ"نبذ فصائل الردّة والعمالة" من دون أن يسميها، ما يؤكد تجذر عقيدة "التوحش" في التنظيم وغياب "البراغماتية" حتى مع أقرب الفصائل إليه فكريًا.

ثالثاً، كان لافتًا إشارة البغدادي إلى "طواغيت الجزيرة (العربية) الخائفين من إيران". عند هذه المسألة، استرسل أمير "داعش" في تحليل تراجع دور الدول الخليجية في سوريا والعراق بفعل العامل الإيراني المتقدم. ولم يكن البغدادي بحاجة إلى الإيغال كثيرًا في هذه النقطة لو لم يكن المقصود منها إنتقاد السياسة الخليجية التي ترفع شعار الخصومة لإيران.

 رابعاً، حدد البغدادي أسلوب "الذئاب المنفردة" في أكثر من محور في خطابه كعنوان للمرحلة المقبلة، من دون أن يصرح بذلك جهارًا. "تكثيف الضربات ضد علماء السوء ودعاة الفتنة" ومطالبته بجعل "مراكز إعلام أهل الكفر ودور حربهم الفكرية ضمن الأهداف" وتأكيده على تنفيذ عمليات في "عقر دار الصليبيين" طغت على دعوته العناصر للثبات كمجموعات في العراق وسوريا واليمن.

خامساً، حظيت تركيا بنصيب من الاتهام بصفتها "إخوانية مرتدّة"، لكن اللافت في المقطع المتعلق بها انتقد البغدادي ضمنًا عدم دخول تركيا في معركة مع الأكراد "خوفا" من الأميركيين، على حد تعبيره. مرةً أخرى، بدا تفسير البغدادي لهذه المسألة انتقادًا للسياسة التركية أكثر منه تعبيرٌ عن عدائه لها.

ظهور البغدادي في هذا التوقيت الذي تنشغل فيه المنطقة بالمسألة الكردية جاء أشبه بأمر عمليات يرسم للتنظيم دوره في المرحلة المقبلة، بعد أن فشل "داعش" في أداء مهمة "كسر الحدود" بالشكل الذي كان يسعى إليه.

المصدر: علي شهاب - الميادين