مع أن مناسبة عاشوراء هي التوقيت الامثل لتأكيد حزب الله على جهوزيته في مواجهة أي اعتداء أو حرب اسرائيلية، وهو استعداد بناء على المناسبة، خارج أي خيال يفترضه مخططوها في تل أبيب. لكن لا يعني ذلك أن المناسبة هي التي أملت على الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، توجيه هذا المستوى من التهديدات، الردعية والدفاعية، ضد اسرائيل.
مع ذلك، كان «الخيار الحسيني» حاضراً وبقوة، في خلفية موقف نصر الله وفي صوغ مضمونه ــــ ونحن هنا نتحدث عن مضمون ثقافي يساهم بقوة في بلورة خيارات حزب الله ــــ الذي يبدو انه استحضره في مواجهة المخططات الاميركية والاسرائيلية، كردة فعل دفاعية: «عندما يضعنا طواغيت العالم أمام الحرب كما يفعل ترامب، كما يفعل نتنياهو... إما الحرب وإما الإستسلام، إما الحرب وإما الذل… موقفنا يا أبا عبد الله هو موقفك آلا إن الدعي إبن الدعي قد ركز بين إثنتين بين السِلة والذلة وهيهات منا الذلة».
اراد السيد نصر الله، من خلال ذلك، اضفاء الطابع الحسيني على خيار المواجهة التي قد تفرضها اسرائيل على حزب الله ولبنان. لأنه يرى فيها تجسيدا عملياً للخيارات التي كانت أمام ثوار كربلاء «اما السّلة أو الذلة».
ربما لا يدرك القادة الاسرائيليون (وغيرهم) الدلالات التي ينطوي عليها قرار حزب الله في اضفاء هذا الطابع على خيار مواجهة أي حرب اسرائيلية، وتحديدا لجهة المدى الذي يمكن أن تبلغه المواجهة. وقد ثبت في المحطات السابقة، وصولا إلى عام 2006، أن الاخطاء التي وقع فيها الاسرائيلي، وغيره ايضا، كان منشؤها من ضمن أمور اخرى، عدم فهم الرؤية التي ينظر من خلالها حزب الله الى التحديات والتهديدات، والمنطق الذي يستند اليه في مواقفه وخياراته، وهو ما أوقعهم في كثير من الاحيان، مع غيرهم، في تقديرات خاطئة تجسدت في محطات محددة من تاريخ الصراع في لبنان والمنطقة. والامر نفسه ينسحب على تقديرهم الذي استبعد أن يتدخل حزب الله في المعركة الدائرة على الارض السورية في مواجهة الجماعات الارهابية والتكفيرية.
اذا ما أردنا أن نستخدم الادبيات الاقرب الى فهم الاسرائيلي، يمكن لصناع القرار في تل ابيب أن يتخيلوا ما الذي يمكن أن يتخذوه من قرارات فيما لو وجدوا أنفسهم بين خيارين فوريين: التهديد الوجودي أو الاستسلام. وهو بالضبط ما سيفعله حزب الله، بما يتلاءم مع قدراته وظروفه. يُضاف اليها استعداده لأعلى درجات التضحية في سبيل الدفاع عن المقاومة ولبنان، وطناً وشعباً وكياناً.
في المقابل، لا يعني المنطق الحسيني في المواجهة، بالضرورة، أن يكون خيارا استشهاديا، بل هو وفق المدرسة الفكرية التي ينتمي اليها حزب الله، الخيار الذي يستند الى عزم راسخ بتأدية التكليف الذي مهد له السيد نصر الله منذ الليلة الاولى من ليالي احياء عاشوراء. والتكليف في هذه الحالة هو الدفاع عن لبنان والمقاومة مهما كانت الاثمان. لذلك، فهي مشروع نصر على اسرائيل. لكن هذا المشروع مقرون بأعلى درجات الاستعداد للتضحية وتقديم الشهداء.
يفترض أن تدرك اسرائيل ماذا يعني أن تقرر جماعة تملك هذا المستوى المتطور جدا من القدرات، أن تذهب حتى النهاية في الدفاع عن نفسها وعن وطنها وقضاياها.
كل من لديه أدنى معرفة – حتى لو كان من موقع المعادي أو الخصم السياسي – بتاريخ حزب الله وخياراته، يفترض أن يدرك بأن لدى الحزب ميزاناً دقيقاً يحدد في ضوئه مواقفه وخياراته. وحتى لو لم يكشف السيد نصر الله، ولا يفترض أن يفعل ذلك، عن المعطيات الخاصة التي استند اليها في تقديراته عن الحرب الاسرائيلية، إلا أنه من المؤكد بأن ما دفعه للكشف عن خياراته العملانية في مواجهة أي حرب اسرائيلية، يتجاوز المناسبة وما يحيط بها، وينبع من معرفة دقيقة للبيئة التي تحيط بلبنان، وما تنطوي عليه من تهديدات مصدرها بالدرجة الاولى العدو الاسرائيلي.
من جهة أخرى، ينبغي أن يكون حاضرا في وعي كل مراقب أن حزب الله لا يحتاج الى تأجيج الموقف ضد الكيان الاسرائيلي، وتحديدا في هذه المرحلة التي يخوض فيها معركة المصير والمستقبل في مواجهة الجماعات الارهابية والتكفيرية في سوريا والمنطقة. ولديه ما يكفي من التضحيات التي قدمها على هذا الطريق، لاستحضارها في هذه المناسبة كي يخاطب من خلالها وعي ووجدان قاعدته.
أكثر من ذلك. حزب الله أحوج الى أن لا تُفتح عليه جبهة أخرى مع الكيان الاسرائيلي، في الوقت الذي ما زال يواصل الى جانب حلفائه معركة الحسم ضد «داعش». وهو بالضبط ما حاولت اسرائيل، وما زالت، استغلاله كي تفرض معادلات جديدة في لبنان والمنطقة.
مع أن مواقف السيد نصر الله، بلغت مستويات من التحذير والتهديد للعدو الاسرائيلي، قلَّ نظيرها بالقياس الى الرسائل التي وجهها في مراحل سابقة، لكنها تمحورت حول موقف الردع والدفاع. نعم، المواجهة نفسها قد تبلغ في مستويات محددة من الارتقاء خيارات ومديات تتسم بطابع هجومي مع إمكان اتساع دوائرها خارج أي رهان أو تقدير في تل ابيب، لكنها ستبقى في سياق وخدمة الردع والدفاع.
يعود ذلك الى أن حزب الله عندما يجد نفسه أمام هذا المستوى من التحدي الذي تضعه أمامه تل ابيب ومعها واشنطن، بين خياري «الحرب أو الخضوع والاستسلام»، فإنه يرى في ذلك ساحة يترجم فيها كل مخزونه العقائدي والثقافي، وبأعلى درجاته. وفرصة لا تقتصر فقط على اسقاط الاهداف الاسرائيلية، بل الذهاب الى ما هو أبعد من ذلك.
في ضوء ما ورد، بات مفهوما تجاهل الخبراء والمعلقين الاسرائيليين التورط في تقدير أو تحليل خطاب السيد نصر الله. وعادة ما تكون هذه الخطوة نتيجة املاءات الرقابة العسكرية، في انتظار تبلور التوصيات التي تحدد الملامح العامة، لأي مقاربة اسرائيلية لاحقا.