شيء جديد ولد وكبر بسرعة. أشياء قديمة ماتت وتأخرت جنازتها. مائة عام ما بعد سايكس ـ بيكو أفلت. الحدود تراخت. الدول تقلّصت. الانظمة تداعت. العقائد استقالت. لم يعد ما كان، بل كل شيء موروث صار بصيغة كان، أي لن يكون.
شيء جديد ولد وأثبت انه البديل. هذه الحروب الطاحنة غيرت الشرق الاوسط. هو ليس شرق غونداليسا رايس والانظمة التالفة، ملكية ام جمهورية. هو عالم جديد ولد، دخل فيه الشعب لاعباً قوياً لا يرد. كانت الحروب العربية الاسرائيلية، نزهة صهيونية وكسباً سريعاً واحتلالاً دائماً. تفوقت اسرائيل على الانظمة كافة. الجيوش العربية كانت مكلفة بحراسة الانظمة والسلطة ولحجم الشعب. كل ذلك في طريقه إلى الزوال.
لا حاجة إلى التذكير، بأن لبنان السياسي معتل وأن قياداته المتعاقبة لا تقرأ مستقبلها الا في قهوة المحاصصة الطائفية. جيشه تجرأ على “داعش” في لحظة شعر فيها السياسيون انهم تعروا من ورقة التوت، بعد انتصار المقاومة الاسلامية اللبنانية الشعبية على “النصرة” في جرود عرسال. استنكروا معادلة الجيش والمقاومة. لم يسمعهم أحد. المنطقة بأسرها ماضية في تأسيس جديد.
من فضائل الحروب الوحشية في المنطقة، انها استدرجت اليها كل الاورام المزمنة وفجرتها بالتتالي. حروب داخل الانظمة وضدها ومعها ومن معها. سوريا لم تعد جيشها. سوريا تعج بالجيوش التي تحارب من فوق، مسنودة بقوى شعبية، موالية او معارضة، من تحت. حرب عالمية واقليمية في سوريا. التعداد للفرق والمنظمات لا يجدي. عشرات، قل مئات. ومع ذلك، فان ما بدا حتى الان، هو تقدم المحور السوري ـ الايراني ـ الحزب اللهي على المحور السعودي، الاماراتي، الأمريكي، التركي، القطري، وعلى من معهم في الميدان… الجيوش وحدها تنكسر. تعلمت الجيوش دروساً في السياسة. هي ليست في خدمة الانظمة، بل في خدمة القضايا.
تدحرجت كرة النار. الحرائق تشتعل بالتتالي. الاحزاب والمنظمات والقبائل والعشائر والاهالي واصحاب المذاهب، كلهم في السعير. وقربهم عراق يحترق والى جانبهم كردستان تسعتد، وتركيا تتخوف. وفي المقلب الخليجي كيانات مرشحة لاستقبال كرة اللهب اليمنية.
الخلاصة، الكل يقاتل الكل. والشعب مشارك في تعميم اللهب.
شيء جديد ولد وكبر بسرعة. المحور الايراني ـ السوري ـ الحزب اللهي، عابر للحدود. المعركة واحدة. اثبت هذا المحور كفاءة نادرة ضد الجميع تقريباً، باستثناء كردستان العراق وأكراد سوريا. أنبت عناداً في البحرين ومقاومة في اليمن. وهذا المحور عينه على بلادهم وعلى فلسطين. لعل فلسطين البوصلة هي الاساس في هذه الحروب.
كلام السيد حسن نصرالله في عاشوراء هذا العام، واضح جداً. نترجمه وفق ما فهمناه:
وداعاً للأنظمة إذا لم تتأهل للمشاركة في “يوم القيامة”، في “الابوكاليبس” غداً، في انتزاع فلسطين من الاحتلال الاسرائيلي. وفهمنا من كلام السيد ايضاً، وداعاً للجيوش التي دفعوها لتكون حارساً لإسرائيل، من دون أن يقبصوا ثمن الحراسة. وفهمنا أن المعركة القادمة، هي معركة الجماهير المنظمة المعقدنة والمدربة والمبرهن على جدارتها، إلى جانب الجيوش التي تآخت بالخندق والدم والقضية، مع تطلعات جماهير المقاومة إلى يوم التحرير.
لعبت “اسرائيل” كعادتها لعبة انتظار المقامرين. تأخذ غلتها من دون أن تجلس إلى طاولة الحظ. راهنت على حلف واسع يضم اعداءً حقيقيين للامة وجماهيرها وناسها. انتظرت لحظة الحسم السياسي، ليكون لها مكان الصدارة في هذا الحلف المنوي عقده قريباً، وقد بدت ملامحه من زمن بعيد.
بالنسبة لهؤلاء العرب، ما كانت اسرائيل عدواً ابداً. ولا هي الآن. انها في مرتبة الصديق والحليف. أعلنت اسرائيل تأييدها لتقسيم العراق. قالت نعم لكردستان وغداً تقول اهلاً وسهلاً لرتل من الوفود العربية الطامحة بضم اسرائيل، بطريقة ما، فعالة، إلى الحلف المضاد لحلف فلسطين.
المعركة غداً، لن تكون بين دول عربية غير مؤهلة لقتال العدو الاسرائيلي. المعركة، هي معركة الجماهير المؤمنة بفلسطين والمعادية حقاً لإسرائيل، وهي تضم شعوباً قريبة وبعيدة، التحمت في الشام، وبرهنت على جدارة في العراق… و”حزب الله” كان القدوة في محاربة التكفيريين في لبنان وفي ابقاء عينه على اسرائيل، وسلاحه جاهز لصد العدوان.
على اسرائيل أن تخاف. هي تفضل بقاء الحروب العربية. هي تستحب حرباً مباشرة بين إيران والسعودية ودول الخليج. هي تتمنى أن يصبح العالم العربي ركاماً فوق ركام. وهي تلح على حلفائها على خوض حرب حقيقية ضد إيران النووية. ومجنون البيت الابيض قد يستغل جنونه وحماقته ليقحم المنطقة في الجحيم. لن تعوزه الاسباب. هي حاضرة ومستفزة…انما، هذه المرة، اسرائيل ايضا، ستكون في قلب الاعصار. وقد ترتكب خطيئتها بحق شعبها، وتودع المنطقة غير مأسوف عليها.
ينشغل اللبنانيون بفسيفساء المشكلات اليومية المزمنة. يراوغون ويكذبون، ولكنهم يصدقون في ما له علاقة بـ”حزب الله”. هناك لبنانيون ضد، ولبنانيون مع. هذا طبيعي. وهناك حرب على “حزب الله” من المحور السعودي ـ الاميركي ـ الخليجي الخ.. يساهم فيها تخويفاً وترهيباً، فريق لبناني شديد الوثوق والمصلحة بالمحور السعودي. هذا الفريق امام الامتحان. “حزب الله” اللبناني في السياسة، يسلّف النظام تسهيلات ولا يضع تعقيدات، ولكنه في المقابل، وعلى الأقل، يطالب بعدم طعنه في الظهر. والمطلوب أن لا يجرب هذا المحور “الحزب”. حزب الله في لبنان، فلسطيني جداً. وها كثيرون باتوا يعتقدون أن فلسطين تقترب من ولادتها. على المراهنين أن يحسبوا ويحتسبوا، إذا عنَّ على سياستهم مجاراة حرب العداء للمقاومة.
والظن يميل، إلى أن نتائج الحروب في المنطقة ستنعكس على معادلات استراتيجية جديدة. ستتأكد اسرائيل انها محاطة بقوى جديدة، ليست من مهماتها حراسة اسرائيل، بل تحرير فلسطين، في اللحظة الاقليمية والدولية المناسبة.
هذه المرة، عندما تأتي، ستنقطع طرق النجاة للإسرائيليين. ستكون الحرب شاملة ووسع مساحة الكيان. وقد تهدد اسرائيلي بـ”عليَّ وعلى اعدائي”. قد ترتكب الجريمة الكبرى، ولكنها، لن تنجو من الكارثة.
الحرب ليست خلفنا. الحروب امامنا. هذا ما ارتكبته اتفاقية سايكس ـ بيكو، وما افتعله وعد بلفور.
مائة عام من الهزائم كانت كافية. زمن جديد يولد ويكبر بسرعة. على اسرائيل أن تنظر جيداً إلى الساعة الرملية. الوقت يضيق وكذلك الانفاس.
هذا موعد “لأبو كاليبس” غداً.. ليس للجنون قاعدة.