عاد رجب طيب أردوغان، أمس، إلى زيارة غريمته الإقليمية التقليدية، طهران، في زيارة حملت في طياتها جملة مواقف تُعلن فتحَ صفحة جديدة على مستوى العلاقات السياسية في الشرق الأوسط

منذ عام 2015، بدأ التدخل الروسي في سوريا يؤثر بنحو تصاعدي بطبيعة العلاقات الإقليمية بين مختلف الأطراف المتنازعة في الميدانين السوري، ومن ثم العراقي. وإذا كان ذلك التدخل قد استفاد من الموقف الأميركي المضطرب مع وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة في بداية العام الجاري، وقبل ذلك كان قد بنى على تفاهمات الوزير سيرغي لافروف ونظيره السابق جون كيري، ليوصل في المحصلة إلى طاولة «محادثات أستانا» بخصوص الأزمة السورية (بدوراتها المتعددة حتى الآن) وبمشاركة إيرانية ــ تركية، فإنّ دعوة مسعود البرزاني إلى إجراء استفتاء كردستان، شكّلت عامل الإنذار الأهم الذي فرض تسريع وتيرة النقاشات بين طهران وأنقرة، بصفتهما أكثر الأطراف تأثراً بحدث كهذا، حتى ولو لم يذهب مباشرة نحو الانفصال.

التوجس التركي التاريخي من أي تلاعب بالمسألة الكردية، ترافق وموقف أقلّ حدة من الجهة الإيرانية، لكنه لا يقلّ حساسية لناحية تلمّس المخاطر المحتملة المقبلة. وقد تعزز ذلك «التحسس الإيراني» خاصة بعدما شعرت طهران، وفق سياسيين رسميين فيها، بخطورة الرسالة الأولى التي وصلتها خلال الصيف الماضي، حين دُفع بأفراد أكراد خرجوا من مناطقهم في غرب إيران لتنفيذ الهجوم على مجلس الشورى في قلب العاصمة طهران، في حدث حمل الكثير من الدلالات، أمنياً ورمزياً. وإذ ذاك، يقول بعض العارفين إنّ الخشية ازدادت، خاصة أنّ البرزاني كان يُعدّ لاستفتائه، ما أدى إلى حضور نقاشات «مآلات الملف الكردي» في الشمالين العراقي والسوري بشكل أقوى على طاولة النقاشات الثنائية مع أنقرة. تلك النقاشات لم تكن غائبة تماماً في الفترات السابقة، لكنّها كانت تجري بصورة أو بأخرى بمعزل عن دمشق أولاً، وبغداد ثانياً.


من جهة أخرى، إنّ المطلعين على عدد من التفاصيل، يشيرون إلى أنّ القراءة الأولية لأزمة قطر في بداية الصيف الماضي، قضت بأنّ افتعال تلك الأزمة، كان يهدف إلى حصار أنقرة من قبل قيادات السعودية والإمارات، بصورة تشغلها عن أي تقارب محتّم مع إيران على مشارف انتهاء الأزمة السورية (من الناحية العسكرية)، وعن احتمال المشاركة الثنائية في التفاهم على ترتيبات في البيت العراقي لمرحلة «ما بعد داعش».
هكذا، دَفعت مختلف تطورات صيف 2017 نحو إعادة السخونة إلى خط أنقرة ــ طهران، خشية من قبل الطرفين مما يُعَدّ له سعودياً وإماراتياً ضدهما وبمباركة من الإدارة الأميركية الجديدة التي كان رئيسها قد حضر في شهر أيار إلى السعودية، معلناً نواة لتحركات دبلوماسية جديدة في الشرق الأوسط.
وجدير بالذكر هنا، أنّ عدم وصول أبو ظبي والرياض نحو نتائجهما السريعة المرجوة من افتعال الأزمة مع قطر، دفع الأولى إلى التحذير من مخاطر تركيا وإيران بصفتهما «إمبراطوريتين استعماريتين»، فيما كثفت الثانية نقاشاتها مع موسكو، بصورة سرّعت في ذهاب الملك سلمان إلى العاصمة الروسية، في حدث تاريخي سيجري اليوم.
إلى جانب كل ذلك، هناك بين الدبلوماسيين العرب من يرى أنّ هذا التلاقي الإيراني ــ التركي عزّزه أولاً استعداد أردوغان لإعادة رسم أطر علاقات الجمهورية التركية مع دول مؤثرة في المنظومة الغربية، وثانياً التعاون الإيراني السريع مع تركيا في صيف 2016 قبيل حدوث محاولة الانقلاب وبعدها، إضافة إلى فوز الرئيس حسن روحاني بولاية رئاسية ثانية، وبالتالي حضوره وفريقه الدبلوماسي بصورة أقوى ضمن سياقات صياغة السياسة الإقليمية لإيران، خاصة «بعدما شارف العسكر على أداء دوره».
في ضوء هذه الخلفية، تبادل رئيسا أركان قوات الدولتين «زيارات تاريخية» في الأسابيع الماضية، تبعها وصول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلى طهران يوم أمس، حيث التقى بكبار شخصياتها، مرافَقاً بوفد رفيع على المستويين السياسي والاقتصادي.

«التقسيم ممنوع»

من طهران، أعلن الرئيس حسن روحاني، أمس، بما يُشبه البيان المشترك، أنّ العاصمتين لن تقبلا «تغيير الحدود الجغرافية في المنطقة بأي شكل من شكل»، فيما قال نظيره التركي: «تصدرت أجندتنا المسألة العراقية (الاستفتاء)، التي نعمل على حلها عبر آلية ثلاثية في الوقت الراهن»، في إشارة إلى التنسيق بين أنقرة وطهران وبغداد، مشيراً في ما يتعلق بسوريا إلى وجود «آلية ثلاثية» تضم بلاداً إلى جانب إيران وروسيا، وتعمل في إطار «محادثات أستانا»، وتولي اهتماماً بالغاً بإنشاء مناطق خفض التوتر، وصولاً إلى إنهاء الأزمة.
أردوغان الذي التقى في وقت لاحق من يوم أمس السيّد علي خامنئي، بعد لقاء مهم مع روحاني كان مثقلاً بإشارات الحفاوة الإيرانية بالضيف التركي، أعرب عن اعتقاده بأنّ «إدارة إقليم شمال العراق سيكون مصيرها العزلة، وإنّ تصميم تركيا وإيران على موقفهما (الموحد) في هذا الشأن واضح»، لافتاً إلى أنه «من الآن فصاعداً، سنتحاور مع الحكومة المركزية العراقية، وهذا الاستفتاء نعتبره غير شرعي على الإطلاق». وفي نقطة مهمة برغم أنها مكررة من قبل الرئيس التركي، تساءل أردوغان: «ما هذا الاستفتاء الذي لا تعترف به دولة في العالم سوى إسرائيل؟ عندما يصدر قرار كهذا عقب التباحث مع (جهاز الاستخبارات الإسرائيلي) الموساد... فلا سند قانونياً له». وفي هذا الخصوص، برغم أنّ العلاقات بين أنقرة وتل أبيب خرجت في المرحلة الماضية من مرحلة الفتور، فإنّ لأردوغان بصمة في الخطابات المعادية لإسرائيل بدأ منذ أشهر قليلة يستعيد نبرتها بصورة واضحة، فيما تُعلّق شخصية عربية على ذلك قائلة: «أردوغان يُدرك أنّ ما يقوله غير صحيح مئة في المئة، لكنّه يُلمّح من إيران إلى أنّ ورقة العلاقة بإسرائيل قد يستخدمها بما قد لا يُناسب الواقع القائم حالياً في المنطقة، وقد يتبادل وطهران أوراقاً إضافية».
في المؤتمر الصحافي المشترك بين الرئيسين، أعلن روحاني أنّ «إيران وتركيا بوصفهما بلدين مسلمين صديقين وقويين في المنطقة، يُعتبران مرساة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط الحساسة». وأضاف: «أريد أن أؤكّد أن العلاقة، على مدى السنوات الماضية، تشهد تطوراً على صعيد السياسة الإقليمية والثقافة والاقتصاد، ولقد اتُّخِذَت قرارات مهمة خلال اللقاء الذي جمعني مع الرئيس التركي، وكذلك في اجتماع المجلس الاستراتيجي المشترك: تعزيز العلاقات المصرفية بالإضافة إلى التجارة بواسطة عملات البلدين الوطنيتين كانت من أهم قرارات المهمة المتخذة في هذا اليوم».
وعلى صعيد متصل، لفت رئيس الجمهورية الإيرانية إلى أنّه «تقرّر تسهيل انتقال البضائع بين البلدين عبر الحدود المشتركة»، مضيفاً أنه «في مجال النفط والغاز كان الاتفاق على أن تستورد تركيا كميات أكبر من الغاز الإيراني، إذ ستجري وزارتا البلدين المتعلقة بهذا المجال المحادثات اللازمة من أجل تنفيذ هذا القرار»، معرباً في الوقت نفسه «عن استعداد إيران لاستقبال المستثمرين الأتراك في مجال الغاز». وأشار في هذا الصدد إلى أنّ بلاده «تمتلك الإرادة» لتعزيز العلاقات مع تركيا في المجال الاقتصادي والتجاري من أجل الوصول إلى حجم تبادلات تجارية «بقيمة 30 مليار دولار» بدلاً من نحو 10 مليارات حالياً.
وبشأن قضايا الإرهاب، شمل إعلان روحاني الاستعداد للمكافحة المشتركة، إشارته إلى «مكافحة أي مجموعة إرهابية وأينما وُجدت، إن كانت داعش، جبهة النصرة، أو أي اسم آخر»، وذلك في وقت أعرب فيه أردوغان عن التفاؤل بأن تساهم مساعي الدول الثلاثة (روسيا، إيران، تركيا) في «خلاص المتضررين والمظلومين في سوريا، من خلال مكافحة التنظيمات الإرهابية في البلاد، وعلى رأسها تنظيما داعش، وجبهة النصرة». وإلى جانب ذلك، لم يخلُ المؤتمر الصحافي من إعلان روحاني أنّ «البلدين يعتبران أن تفاقم الخلافات المذهبية والقومية هي مؤامرة أجنبية خُططت للمنطقة».

المصدر: الأخبار