بعد التعليق المتبادل للتأشيرات بين واشنطن وأنقرة، تفاقمت حدّة التصريحات التركية، أمس، في تصاعد ملحوظ للأزمة التي قد تشكّل المدخل الذي سيفجّر التراكمات الناشئة بين الحليفين جراء سلسلة من الخلافات الجوهرية في عدد من الملفات الشرق أوسطية
اتخذ التحالف المشوب بالتوترات بين تركيا والولايات المتحدة منعطفاً خطيراً، أمس، حين أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن حكومته رفضت استقبال السفير الأميركي في زيارة وداع قبل مغادرته أنقرة، وذلك لأن الأخيرة «لا تعتبره ممثلاً للحكومة الأميركية في بلادها».
ودعا أردوغان الولايات المتحدة إلى إقالة السفير جون باس إذا «كان قد اتخذ قرار تعليق إصدار تأشيرات الدخول للأتراك من تلقاء نفسه»، مؤكداً خلال زيارة لبلغراد، أن واشنطن هي التي «افتعلت» المشكلة، وبلاده «تعاملت بالمثل مع القرار الأميركي».
وكانت السفارة التركية في واشنطن قد أعلنت، الأحد، تعليق إجراءات منح التأشيرات للمواطنين الأميركيين «بشكل فوري»، وذلك عقب إعلان سفارة الولايات المتحدة في أنقرة تعليق جميع خدمات التأشيرات في مقرها وفي القنصليات الأميركية في تركيا.
وجاء ذلك بعد أيام من صدور حكم قضائي تركي باعتقال وتوقيف موظف يعمل في قنصلية الولايات المتحدة في أنقرة، يُدعى متين طوبوز، بتهمة «التجسّس، والسعي إلى إطاحة الحكومة التركية، والتعامل» مع مجموعة الداعية الإسلامي المقيم في الولايات المتحدة فتح الله غولن، الذي تتهمه أنقرة بتدبير الانقلاب الفاشل صيف 2016.
وتعليقاً على الاتهامات القضائية الموجهة إلى اثنين من موظفي السفارة الأميركية في بلاده، تساءل أردوغان: «كيف تسلل هؤلاء العملاء إلى السفارة الأميركية؟ ومن المسؤول عنهم؟»، مضيفاً: «لا توجد دولة في العالم تسمح لمثل هؤلاء العملاء بتهديد أمنها». وتابع قائلاً: «الولايات المتحدة هي المسؤولة عن هذه القضية، وأستنكر عدم قيام مسؤوليها الكبار بأي اتصال (حول الموضوع) مع مسؤولينا، ولا سيما وزير خارجيتنا».
وهذه ليست المرة الأولى التي تطاول فيها حملة الاعتقالات الموسعة، التي أطلقتها أنقرة عقب الانقلاب الفاشل، مواطنين أميركيين، وقد تحولوا إلى أوراق مقايضة محتملة ضمن جهود تركيا لإجبار الولايات المتحدة على تسليم غولن. ومثال على ذلك، القس الأميركي أندرو برونسون، المعتقل منذ تشرين الأول الماضي في تركيا، الذي قال أردوغان إن أنقرة ستبذل «جهدها» لإعادته إلى الولايات المتحدة، إذا سلّمت الأخيرة غولن.
من جهته، وصف رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، في خطاب أمام نواب حزب «العدالة والتنمية» الحاكم أمس، تعليق واشنطن منح تأشيرات للمواطنين الأتراك لـ«دواعٍ أمنية» بأنه «تناقض سافر»، داعياً الحكومة الأميركية إلى تبني «مواقف أكثر عقلانية... لا يمكن أن تحكم الدول بالمشاعر».
وكشف رئيس الوزراء التركي أن توقيف طوبوز مرتبط بتحقيقات محاولة الانقلاب في تركيا منتصف تموز عام 2016، مؤكداً أن أنقرة «لن تميز الموظف في السفارة الأميركية عن غيره»، ومتسائلاً: «هل نحتاج لإذن من واشنطن لتسمح لنا بالتحقيق معه؟».
وكان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، قد أكّد «وجود أدلة خطيرة ضد موظف القنصلية الأميركية»، فيما كشفت وسائل الإعلام التركية أنه «بعد التحقيقات، تبيّن للنيابة العامة ارتباط طوبوز بالمدّعي العام السابق الفار زكريا أوز، ومديري شرطة سابقين، يشتبه في انتمائهم إلى منظمة فتح الله غولن الإرهابية».
وفي معرض ردّه على القرار الأميركي، اتهم يلدريم واشنطن بحماية غولن، منتقداً كذلك اعتقال الولايات المتحدة في آذار الماضي نائب المدير العام لـ«بنك خلق» (البنك الشعبي) المملوك من الدولة التركية، محمد حقان أتيلا، بتهمة «مساعدة إيران على الالتفاف» على العقوبات الأميركية المفروضة عليها.
وقال رئيس الوزراء مخاطباً واشنطن: «هل طلبتم إذناً عندما رميتم نائب الرئيس التنفيذي لمصرفنا الرسمي خلف القضبان؟»، متسائلاً عمّا إذا كان هذا التصرف «بتحالف أم صداقة؟».
واستدعت الخارجية التركية، أول من أمس، مستشار السفارة الأميركية في أنقرة فيليب كوسنت، وأبلغته تطلعها إلى تراجع واشنطن عن قرار التعليق التأشيرات، في وقت حذرت فيه الأخيرة من التداعيات الخطيرة للاعتقال على «العلاقة المستمرة منذ وقت طويل» بين الحليفين في «الناتو». وهذا ما أكّدته صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، التي رأت في التطورات الأخيرة دليلاً على «مدى انهيار التحالف القوي»، الذي يرتكز على العلاقات العسكرية والاستخبارية والتجارية، بين تركيا والولايات المتحدة.
وغير واضح المسار الذي ستتخذه العلاقة التركية ــ الأميركية، التي يشوبها التوتر بسبب الخلافات المتصاعدة بين البلدين حول عدد من الملفات المهمة. وعززت محاولة الانقلاب العسكرية التي شهدتها تركيا العام الماضي، انعدام الثقة بين الحليفين، ولا سيما في ظل رفض واشنطن تسليم غولن المقيم في ولاية بنسلفانيا، أو حتى استدعائه للتحقيق أو فرض الإقامة الجبرية عليه. وبالإضافة إلى ذلك، تنتقد أنقرة الدعم الأميركي للأكراد في سوريا، حيث تشارك القوة الكردية في الحرب الأميركية ضد تنظيم «داعش».
وفي هذا السياق، دعا يلدريم، أمس، الولايات المتحدة إلى «وقف دعم الميليشيات الكردية في سوريا»، متوجهاً إلى الأميركيين بالقول: «عليكم أن تتخلّوا عن حماية تنظيم حزب الاتحاد الديمقراطي. فالتعامل مع أعدائنا لا يليق بالتحالف الذي بيننا». وأكّد رئيس الوزراء التركي أن بلاده «لا يمكنها التغاضي عن التطورات على حدودها الجنوبية مع سوريا والعراق، والاكتفاء بمشاهدة النيران عن بعد»، مكرراً معارضة أنقرة، الشريك التجاري المهم لأربيل، «بشدّة» إنشاء دولة كردية.
أيضاً، الموقف المشترك بين إيران وتركيا من إجراء إقليم كردستان استفتاء الاستقلال عن العراق، ما دفع البلدين إلى تعزيز التعاون والحوار في ما بينهما، «أزعج» وفق الباحث في معهد واشنطن للدراسات سونير جاغباتاي، «الولايات المتحدة، تماماً كما فعل تقارب تركيا في علاقاتها مع روسيا». وكانت واشنطن قد أعربت عن عدم ارتياحها إزاء قرار أنقرة اقتناء منظومات «إس-400» الروسية، في اتفاق روسي ــ تركي أعلنه أردوغان في 12 أيلول الماضي.
وأمس، قال الأمين العام لحلف «الناتو» ينس ستولتنبيرغ إن تركيا لم تطلب دمج منظومات «إس-400» التي اشترتها من روسيا، في أنظمة الدفاع الجوي لـ«الحلف»، داعياً أنقرة إلى «شرح أسباب اقتنائها المنظومات الصاروخية الروسية لسائر الدول الأعضاء».
من جهتها، لفتت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية إلى تزايد المخاوف من إمكانية «تفجّر الخلاف الدبلوماسي الخطير إلى أزمة دبلوماسية شاملة»، على الرغم من تأكيد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ونظيره التركي، في لقاءٍ على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي، أن العلاقات بين البلدين «وثيقة كما كانت دوماً».