ردّ فعل إسرائيل على تصدي الدفاعات الجوية السورية لطائراتها، بعد خرقها المجال الجوي السوري من الحدود اللبنانية، جاء استثنائياً هذه المرة، وذا دلالات. ردّ فعل لا يتعلق بالرد المادي فحسب بإطلاق صاروخ اعتراضي، بل جراء سلسلة إجراءات واعتراضات سورية في الفترة الاخيرة، عمدت إسرائيل إلى إخفائها، وهي تهدف، بحسب القراءة الإسرائيلية، إلى رسم معادلات جديدة في وجه الخروق الإسرائيلية للأجواء السورية واللبنانية.
التعليقات الإسرائيلية، أمس، انشغلت في عرض تقديرات المؤسسة الامنية ودوائر القرار فيها. وهي أجمعت على أن الرئيس السوري بشار الاسد يمهّد لمرحلة ما بعد هزيمة تنظيم «داعش»، وبالتالي يتطلع إلى مرحلة ما بعد تحرر الجيش السوري من جزء كبير من أعبائه الميدانية. المعادلة الجديدة تنص على التصدي للخروق الاسرائيلية، بما يشمل العمق الحيوي للمجال الجوي السوري، إلى داخل الأجواء اللبنانية.
إحدى أهم الدلالات التي توقفت عندها تل أبيب هي أن إطلاق الصاروخ الاعتراضي جاء «من دون مبرر»: لا خرق للأجواء السورية، ولا طلعات قتالية، والطائرات الإسرائيلية كانت في مهمة «روتينية» في الأجواء اللبنانية! ما يعني أن قرار التصدي وإطلاق الصاروخ جاء عن سابق تصميم، وهو متخذ من قبل القيادة السورية ضمن خطة مدروسة مسبقاً لفرض معادلات وقواعد اشتباك جديدة، لا تعيد الاوضاع وقواعد الاشتباك إلى ما كانت عليه قبل الحرب السورية، بل أيضاً إلى منع إسرائيل من خرق الاجواء اللبنانية، الأمر الذي يعدّ، من جهة تل أبيب، اعتداءً على «حق طبيعي» لها لا يمكنها أن تفرّط فيه، وبحسب تعبيرات إسرائيلية: «التحليق فوق لبنان هو ذخر استراتيجي، وليس مجرد طلعات استخبارية أو عملياتية».
اللافت في التسريبات الإسرائيلية، أمس، هو الإقرار بأن الصاروخ السوري لم يكن إلا «رأس الجليد» وآخر اعتراض سوري ضمن سلسلة اعتراضات في الفترة الاخيرة، فضّلت إسرائيل أن لا تكشف عنها منعاً من إحراجها، ما يعني أن إسرائيل باتت أمام استحقاق داهم ووشيك، وإذا تواصل من قبل دمشق، ولم يجر التعامل معه بحزم وتصميم، فقد يوصل المعادلة إلى نتائج وخيمة من ناحية إسرائيل.
وبحسب صحيفة «يديعوت أحرونوت»، في الاشهر الاخيرة اصطدمت طائرات سلاح الجو الاسرائيلي مرات عدة بنيران الدفاعات السورية، إلا أن إسرائيل لم تنشر شيئاً عن هذه الاحداث، و«ربما يعود ذلك الى السياسة الامنية، أو ربما لأن الظروف لم تنشأ للرد على هجمات الدفاعات السورية». وتضيف المصادر: «بدلاً من ذلك، أرسلت إسرائيل تحذيرات الى الجانب السوري، وكانت تحذيرات صريحة. لكن اتضح أن السوريين لم يتعاملوا معها بجدية، وفضّلوا تجاهلها».
صحيفة «معاريف» نقلت تقديرات وتساؤلات المؤسسة الأمنية في إسرائيل، لكن بكلمات أكثر مباشرة ووضوحاً من «يديعوت أحرونوت»، مع كثير من عدم اليقين. بحسب الصحيفة، «الواضح أن الأسد يعمل على رسم خط أحمر سوري جديد، يمنع بموجبه سلاح الجو (الإسرائيلي) من العمل في الأجواء اللبنانية، لكن السؤال الأهم هو (تضيف «معاريف»): هل فعل ذلك بمبادرة منه، من دون تنسيق مع إيران وروسيا، أو بالتنسيق معهما، والأخطر من ذلك، هل عمد الى التصدي بتوجيه منهما؟».
الأسئلة الثلاثة تحمل في طيّاتها أرجحية مختلفة من ناحية تل أبيب. وكلّ منها يفسر الإجراءات السورية في اتجاهات متفاوتة، وإن كانت جميعها تصبّ في هدف واحد: تقليص «حرية عمل» سلاح الجو الإسرائيلي. مع ذلك، الأسئلة الثلاثة التي تختلف في الظاهر، تعدّ في الواقع متصلة وعضوية، وتحديداً إن تدحرج الرد والرد المضاد إلى سلسلة ردود تصاعدية، ما يدفع بلا جدال الجهات الثلاث: سوريا وإيران وروسيا، إلى التموقع في خندق واحد لمنع إسرائيل من مواصلة اعتداءاتها، وهذه هي أهم الأسئلة الإسرائيلية التي لم يكشف عنها، ومن شأنها تفسير تواضع تل أبيب في ردّها على الرد السوري.
جاء الرد الإسرائيلي على الصاروخ الاعتراضي سريعاً نتيجة لضرورات تظهير الحزم والتصميم الإسرائيليين في وجه المخطط السوري، وتحديداً ما يتعلق بالأجواء اللبنانية، وفي الوقت نفسه «حكيماً جداً» بلا مخاطرة في الدفع إلى ردّ سوري مضاد، يجري في أعقابه تدخل الحليف بفئتيه: الإيراني والروسي، وذلك عبر استهداف مكوّن من مكوّنات المنظومة الدفاعية السورية (الرادار) بحيث تخرج المنظومة مؤقتاً من الخدمة، من دون تدميرها، ومن دون إلحاق إصابات بشرية في كادرها.
الرسالة السورية وصلت. بل يتبيّن أنها وصلت بشكل جيد جداً، مع فهم وإدراك لأبعادها ومراميها، وأيضاً لإمكاناتها الواقعية الفعلية في تحقيق أهدافها. ورغم أن الصاروخ الاعتراضي السوري لن ينهي الخروق الإسرائيلية، لكنه مؤشر مقلق جداً لتل أبيب، خاصة أنه ضمن قرار وسلسلة ردود سورية، من شأنها أن تشغل إسرائيل في البحث عن إجابات عن فرضيات غير نظرية لمرحلة ما بعد انتصار الدولة السورية وحلفائها، وتحديداً ما يتعلق بقدرة الجيش السوري على المناورة في مرحلة تخفيف الأعباء الميدانية عنه، ما بعد إنهاء تنظيم «داعش».