دخلت مدينة الرقة مخاض ما بعد «داعش»، أمس، مع إعلان قوات «التحالف الدولي» انتصارها على التنظيم داخل آخر معاقله في المدينة. المعركة التي استمرت عاماً كاملاً منذ إعلان وزير الدفاع الأميركي السابق أشتون كارتر، بدء عمليات «عزلها»، وضعت أوزارها في ملعب المدينة، بعد حصار طويل فرضته «قوات سوريا الديموقراطية» وقصف أميركي عنيفٍ محى معالم أحيائها؛ وحفر ندوباً عميقة على وجوه «الناجين» منه وأجسادهم.
«النصر» الأميركي على «داعش»، اكتمل بسقوط «عاصمة الخلافة» الثانية بعد الموصل، غير أن مساره تضمن فرض واشنطن نفسها لاعباً رئيساً على الساحة السورية.
ومن غير المتوقع أن تكون نهاية العمليات داخل الرقة، آخر معارك «التحالف» في سوريا، ولا سيما بوجود جبهات مشتركة لقواته مع تنظيم «داعش» في ريف دير الزور الشرقي، وهو ما أوضحه المتحدث باسم «التحالف» مراراً. غير أن شكل تلك المعارك وحجمها مرتبطان بنحو كبير بتحركات الجيش السوري وحلفائه هناك، ولا سيما أن قواتهم طوّقت «داعش» في أحياء مدينة دير الزور، وأحكمت سيطرتها على كامل المناطق شرقاً نحو الميادين، قبل أن تعبر نهر الفرات في موقع جديد، شمال شرق مدينة الميادين. ومن شأن التحرك الأخير للجيش أن يفصح بوضوح عن نية للتوسع نحو الحقول النفطية على الضفة الشرقية للفرات، بما يمنع أي تحرك محتمل لـ «قسد» لعبور الخابور من محيط حقل الجفرة النفطي، بنيّة السيطرة على تلك الحقول.
وبينما شهدت الأيام الماضية هدوءاً على الجبهات المشتركة بين الجيش السوري و«قسد» في دير الزور، تبدو خطوة «التحالف» المنتظرة هناك، رهن تفاهمات مسبقة مع الجانب الروسي، وتخضع لحسابات جديدة تفرضها المتغيرات التي طرأت على المشهد في سوريا والعراق. فأنقرة صعَّدت من تحركاتها العسكرية ضد «وحدات حماية الشعب» الكردية في عفرين، وأصبحت تفرض طوقاً شبه كامل على المنطقة؛ بعد دخولها ريف حلب الغربي. كذلك فإن طريق الإمداد المفتوح الذي حمل مئات الآليات والمدرعات الأميركية من إقليم «كردستان» العراق إلى مناطق سيطرة «قسد»، أصبح منطقة «تنازع» تحظى باهتمام تركي بالغ. كذلك، تحظى الوساطة الروسية بين الأكراد ودمشق بفاعلية كبيرة، قد تمهّد لتفاهمات تقونن المعارك في مناطق «داعش» الأخيرة على الحدود السورية ــ العراقية.
ومع انخفاض صوت الرصاص في الرقة، بدت واشنطن مستعدة لمرحلة ما بعد الحرب. فمبعوثها إلى «التحالف» بريت ماكغورك، كثّف من نشاطه مع «المجالس واللجان المحلية» في الرقة ودير الزور، التي أُنشئت لتحمل لواء «الشرعية المحلية» تحت غطاء «التحالف»، وتكون حصان واشنطن الأميركي لاحقاً على أي طاولة مفاوضات. وبدا لافتاً، أن ماكغورك حمل معه إلى سلسلة الاجتماعات التي عقدها أمس، في بلدة عين عيسى في ريف الرقة الشمالي، وزير الدولة السعودية لشؤون الدول الخليجية والسفير السابق لبلاده في العراق، ثامر السبهان. حضور الأخير يندرج بدوره ضمن «التوليفة» الأميركية التي «تراعي» البعد العشائري والطائفي للشرق السوري، ولا سيما أن «قسد» ذات الغالبية الكردية لن تُقبَل كممثل لمئات المدن والبلدات العربية.
وبرغم إعلان «النصر» على التنظيم، فإن الإعلان الرسمي للسيطرة على كامل مدينة الرقة لم يأت أمس، بل أصر «التحالف» و«قسد» على ضروة «تنظيف المدينة من الألغام، وبقايا جيوب (داعش) داخلها» قبيل الإعلان الرسمي. وكانت المعارك الأخيرة في محيط المشفى الوطني والملعب، من دون أن يتضح مصير المدنيين وعناصر التنظيم الذين كانوا محاصرين في جيب صغير هناك، ولا سيما مع تأكيد المتحدث باسم «التحالف» ريان ديلون، عدم تنفيذ طائراته أي ضربات جوية أمس داخل المدينة.
وفي موازاة ذلك، كان الجيش السوري وحلفاؤه قد فرضوا سيطرتهم على كامل شريط القرى الممتد بين دير الزور والميادين، التي تضم بلدات موحسن والبوليل والعليات وسعلو والطوب. وتمكنوا من تعزيز نقاطهم غربي بلدة الحسينية، على الضفة المقابلة لأحياء دير الزور، وسيطروا على قريتي شقرا والجنينة. وفيما يتقدم الجيش في محيط الطريق الموصل بين الميادين والبوكمال لكيلومترات عدة، عبرت أمس وحدات من قواته إلى الضفة الشرقية للفرات، وثبتت مواقع في بلدة ذيبان شمال شرق الميادين، التي قد تفتح الطريق إلى توسيع العمليات نحو حقل عمر والحقول النفطية المجاورة له شرق الخابور. كذلك، صدّ الجيش أمس، هجوماً عنيفاً لتنظيم «داعش» على محيط سد الوعر جنوب محطة «T2»، القريب من الحدود العراقية، بعدما تراجع من عدد من النقاط هناك تحت ضغط هجمات التنظيم. وفي ريف حماه، تمكن الجيش من استعادة السيطرة على ما بقي من منطقة وادي العذيب وقرى جباب التناهج والمكسار القبلي والشمالي في ريف المحافظة الشمالي الشرقي، التي كانت تضم مسلحين من تنظيم «داعش»، هربوا من العمليات في محيط عقيربات. ومن شأن التقدم الأخير تأمين طريق السلمية ــ إثريا ومحيطه.