«عاصفة الجزيرة» الكردية ــ الأميركية التي تهب على وادي الفرات، تحوّلت برداً وسلاماً على «داعش». فالصفقة التي عقدها التحالف الكردي ــ الأميركي مع «داعش» لإخلاء الرقة، وتأمين طرق انسحاب آمن، امتدت لتشمل أرياف دير الزور الشمالية الشرقية. ووفق مصادر في المنطقة، أخلى مئات المقاتلين أكثر من 28 قرية، لتنتشر فيها «قوات سوريا الديمقراطية» من دون قتال.
وكان شيوخ عشائر ووجهاء في المنطقة قد أقنعوا العناصر السوريين في «داعش» بتسليم مواقعهم لتفادي القتال مع الأميركيين و«قسد»، والذي «لا يستفيد منه سوى الرافضة». ولم تتعرض طائرات «التحالف الدولي» لأي من تلك الأرتال. وشمل الاتفاق «الكردي ــ الداعشي» تسليم التنظيم منشآت استراتيجية للقوات الكردية، في إطار توافق بات واضحاً أنه لا يقتصر على تفاهمات الرقة، بل إن «داعش» ذهب في هذا التفاهم إلى حدّ قتال الجيش السوري في حقل العمر النفطي الاستراتيجي قبل الانسحاب منه أمس، وتسليمه للقوات الكردية، لتواصل واشنطن مراكمة أوراق استراتيجية، تهيّئ عبرها لجولات من المقايضة مع دمشق لترسيخ المشروع الفيدرالي
قد يكون جوان إبراهيم، القائد العام السابق لقوات «الآسايش» التابعة لـ«الإدارة الذاتية»، ذهب أكثر مما ينبغي كردياً في مجاراة السعوديين في حربهم مع إيران، كي يسقط من أعلى هرم المؤسسة الأمنية الكردية السورية منتصف أيلول الماضي. والأغلب أنه بالغ في فتح النار على الإيرانيين بطريقة لم يسبقه إليها أيّ مسؤول كردي سوري سابقاً.
الإعلامي السابق في «حزب العمال الكردستاني»، خاطب قبل شهرين صحيفة سعودية، مهوّلاً «بالخطر الإيراني الذي يفوق خطر (داعش) على سوريا». ولقصر الإقامة في جبال قنديل، لم يسعف الإعلامي السابق حذره الفطري في تجنّب خطاب حاد كهذا، وقد استدعته على عجل خنادق الحرب السورية، وقرار «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي قيادة 17 ألف أمني في جهاز «الأسايش». والأرجح أن عزله من منصبه قبل شهر، واسترداد أحد مفاتيح السلطة في «فيدرالية الشمال السوري» الكردية من يده، يعكس حذر «حزب الاتحاد» من الانخراط في وظيفة جديدة تعدّها الولايات المتحدة لحليفها الأوثق، بقصد احتواء إيران في الشرق السوري. وهي التوصية التي وضعها مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر على طاولة الإدارة الأميركية تحت عنوان: «سوريا ساحة لاحتواء إيران». وهي تأتي في سياق ضيق خيارات واشنطن، بحيث لم يبق في يدها سوى ورقة الأكراد، بعد التراجع الكبير في نفوذ وقدرات كل المجموعات المسلحة الأخرى. لكن هذه الاستراتيجية تحتاج إلى وقت لتترجم خطواتها في ضوء مراجعات تعدّها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بالتعاون مع وزارة الخارجية لمرحلة ما بعد «داعش»، والتي سيكون شرق سوريا مسرحها الأبرز.
لكنّ خبيراً دولياً عائداً من القامشلي يجزم لـ«الأخبار» بأن «كفة التيار الكردي المؤيد لتسوية مع دمشق يكون سقفها الإدارة الذاتية قد تكون أكثر رجحاناً مقابل التيار العامل على تكرار السيناريو العراقي المعروف في بناء وقائع مؤسساتية وكيانية فوق أرض الجزيرة السورية. وهذا التيار يستهدف إضعاف دمشق كمركز، تمهيداً للذهاب لاحقاً نحو خيارات أكثر جذرية وأبعد من الفيدرالية»، مع العلم بأن مشروع الفيدرالية لا يزال مشروعاً كردياً فقط، ولا يحظى بدعم أيّ مكوّن عربي أو سوري وازن، ويستبعد أن يحظى بذلك.
وعلى الرغم من ذلك تعتقد رئيسة «الهيئة المشتركة لفدرالية الشمال السوري»، فوزة اليوسف، أن مرور الزمن كفيل بتغيير موقف المعارضين للمشروع الفيدرالي «إذ لا يوجد في سوريا من الكرد والعرب والآشوريين والسريان من يوافق على العودة إلى سوريا ما قبل الأزمة».
لا يغيّر التحاق العديد من أفراد العشائر العربية في الجزيرة، بالأكراد، شيئاً في واقع المعارضة العربية المركزية للفيدرالية. حيث يظهر التطابق بين الدولة السورية ومعارضيها على اختلاف منابعهم في رفض أي نظام فيدرالي في سوريا، إذ أكدت كل وثائق مؤتمرات المعارضة منذ بداية الأزمة على بقاء دمشق مركزاً ومصدراً للسلطات، وهو موقف حاسم بمعزل عن الموافقة على تنوّع في اللامركزية الإدارية للبلاد.
أضف إلى ذلك أن دمشق، وعلى ما قاله وزير الخارجية وليد المعلم أخيراً، تبدي استعدادها للتفاوض مع الكرد تحت سقف «القانون 107» الذي يسمح بإدارة محلية، مع نسخة مطورة من لامركزية إدارية حصراً. وموقف دمشق هذا هو العرض الأسخى من قبلها، إذا ما قدّر لها أن تنفرد بفرض الحل من دون تدخل روسيا، سيما أن القلق ينتاب كثيرين بعد تصريحات الرئيس فلاديمير بوتين، المقلقة، عن مؤتمر ترعاه موسكو في حميميم «لشعوب سوريا»؛ فدمشق تعي جيداً أن المخاطر كبيرة جداً، وتتجاوز الجغرافيا السورية، وأن تقوية الأطراف أو الأقاليم على حساب المركز تتطلب تغييراً جوهرياً في مجمل بنية النظام في سوريا. لا بل إن الأمر يتحول إلى هجوم هدفه إسقاط النظام من الداخل، من خلال تعديل دستوري يرعاه الروس، وتكون نتيجته تسهيل مشاريع القوى الدولية لإنشاء كيانات هشّة من الأقاليم لتتنازع جماعاتها في ما بينها، كما في لبنان، وتمهّد لاستتباعها، بعد أن فشلت حرب الأعوام السبعة في تحقيق ذلك عبر جماعاتها المسلحة، من السعودية وتركيا وقطر والولايات المتحدة .
والقلق سببه ما يجري منذ ستة أشهر حتى الآن، حيث يرعى الروس لجنة من خبراء دستوريين عرب وأوروبيين، تواظب على الاجتماع في أثينا ولندن وجنيف، وتديرها المعارضة السورية رئيسة «حركة المجتمع التعددي» رندا قسيس، بموافقة الخارجية الروسية. وتفيد المعلومات بأن بند الفيدرالية يقع على رأس التعديلات التي يقترحها هؤلاء. وقد يتحول الرهان الفيدرالي إلى بديل من الهجوم الذي استهدف، ولا يزال، منذ آذار 2011 تفكيك المشرق العربي، وتعديل وظيفة سوريا في قلبه، كحاجز تاريخي وجغرافي استطاع صدّ الاحتلال الأميركي في العراق، ومنعه من التقدم في البادية السورية ودمشق ولبنان، كما نجحت سوريا في احتواء موجات الغزو «السلفي» الجديدة، وحافظت على خيار المقاومة وقواها، وفرض معادلة الردع الاستراتيجي مع العدو الاسرائيلي.
استراتيجية الأكراد تقوم على مبدأ مراكمة عناصر القوة وجمع الأوراق، وأمل هؤلاء الوصول الى لحظة التوازن مع الجيش السوري في عمق وادي الفرات، أي خارج أسوارهم التقليدية، وبحماية أميركية على غرار ما جرى في القامشلي والحسكة، واستخدام هذه الوقائع على طاولة النقاش مع دمشق بقصد الحصول على تنازلات منها، في ما خصّ الفيدرالية أو «الإدارة الذاتية».
وكانت «الإدارة الفيدرالية» قد نجحت خلال أربعة أعوام في محاصرة مؤسسات الدولة السورية داخل مربع في القامشلي، وحثّت الخطى في «تكريد» التعليم والأمن والقضاء والخدمات والمنشآت النفطية في الرميلان، وأقامت شبكة من المجالس المحلية نجحت في توفير متعاونين مع الإدارة الكردية، عبر توفير الخدمات، وقاعدة للسيطرة على المجتمع العربي في الجزيرة ومراقبته، وانتقلت إلى إلحاق جيش من العشائر العربية بوحداتها الشعبية التي تضم مقاتلين من عشائر طيّ وشمّر والولدة وعنِزة والشرابين والجبور والبقارة والبكير وغيرها. ومن المفارقات أن المشروع الكردي في سوريا، الذي أخفق إلى حدّ كبير في إثارة هجرة مدينية من التجمعات الكردية الكبرى في دمشق وحلب نحو الكيان الناشئ في الشمال الشرقي السوري، بات يعتمد إلى حدّ كبير في تقدمه على مقاتلين عرب بشكل يفوق اعتماده على الأكراد أنفسهم.
وقد وفّر التوسع العسكري للأكراد في الحسكة والرقة «زبائن» جدداً من العشائر العربية التي لم تجد بعد انحسار الانتشار العسكري السوري من يدافع عنها إزاء التقدم الكردي. وكلما تقدمت «وحدات حماية الشعب» الكردية في المناطق العربية، ازدادت نسبة العرب في صفوفها، في حين يتراجع التجنيد داخل القاعدة الكردية، بسبب الخسائر الكبيرة التي منيت بها «الوحدات» في المعارك المستمرة منذ أربعة أعوام، وهجرة الشباب الأكراد الذين اندفعوا كغيرهم فوق أمواج المتوسط إلى أوروبا. ومن بين 30 ألف مقاتل يعملون مع الوحدات، ارتفع عدد المقاتلين العرب من خمسة آلاف مقاتل عام 2015 (عند تأسيس «قوات سوريا الديمقراطية»)، إلى 13 ألف عربي في عام 2016 من بين 45 ألف مقاتل. ووصل في آب الماضي، بحسب الإحصائية الأميركية، إلى 25 ألف عربي من أصل 50 ألف مقاتل، في القوات التي تتولى قيادتها عناصر كردية فقط، إذ لا يوجد عربي واحد في موقع القيادة أو القرار بسبب آليات انتخاب القادة المعقّدة والطويلة التي يطبّقها «حزب العمال الكردستاني» على فرعه السوري .
وتقول فوزة اليوسف إن «العرب يشكلون 60 في المئة من القوة العسكرية العاملة تحت الإمرة الكردية». وفيما أخفقت دمشق في تقديم استراتيجية واضحة لربط العشائر في الجزيرة بوحداتها المقاتلة، فهي رضخت قبل عام ونصف للمطلب الكردي بحل وحدات «الدفاع الوطني» في المدينة (إثر المواجهات العسكرية) التي لم تزد نسبة الأكراد فيها على عشرين في المئة، وهي تقع في قلب مستطيل من الأرض يمتد على 12 ألف كيلومتر مربع، من جبل عبد العزيز فالشدادي والهول ومركدة، ويشكل فيه العرب أكثرية ساحقة، لا بل يكاد ينعدم فيها أي انتشار سكاني كردي. وذهبت الفيدرالية أبعد من ذلك في عملية دمج العرب داخل مؤسساتها، وسلخهم عن دمشق، إذ يقول خبير دولي «إن مرحلة ما بعد «داعش» ستشهد نهاية التفاهم مع زعماء العشائر، ومجموعات «الجيش الحر» السابق، لتحويل المجموعات العربية الى جيش متماسك، دون أي هامش للاستقلالية، يخضع كلياً للقيادة الكردية».
أما اتساع التباين بين الأجنحة الكردية (الأميركية والسورية)، فلا يزال في بداياته على ما يقوله الخبير الدولي، الذي يصف جوان إبراهيم بأنه «الوجه الأول» الذي طفى باكراً على سطح الصراع داخل الفيدراليين الأكراد، معبراً عن تيار كردي سوري يعمل وفق استراتيجية قصيرة الأمد، تستعجل التوصل إلى مبانٍ مؤسساتية سياسية في الفيدرالية الكردية تحت مظلة الانتشار الأميركي، ويستند في شرعيته إلى التضحيات الكبيرة التي بذلت في عين العرب (كوباني) ومنبج والرقة، والأوراق الكثيرة التي راكمها الأكراد خلال ثلاثة أعوام من القتال إلى جانب القوات الأميركية في سوريا، في الحرب على «داعش».
وينحو هذا التيار إلى انتهاز فرصة وجود الدعم الأميركي المسلح لثبيت مشروع فيدرالي، وتسويره بالقواعد الأميركية التي قد تبقى في الرميلان وعين عيسى، أو مطار المالكية، أو عين عشق في الرقة جنوب عين العرب. وتقول مصادر في المنطقة لـ«الأخبار» إن الأكراد الذين أعلنوا استمرار المعارك، رغم سقوط الرقة وطرد «داعش» منها، يحاولون تأجيل أي قرار أميركي بالانكفاء من المنطقة، قبل أن تستعيد دمشق قدرتها على المبادرة وتتفرغ للملف الكردي على جناحها الشرقي الشمالي. ويقول الخبير الدولي إنه رغم التوقعات بتراجع العمليات، زادت طائرات الشحن العسكري الأميركي رحلاتها باتجاه مطار الرميلان، وتضاعفت عمليات تسليم الذخائر والأسلحة لـ«قسد» استعداداً لمرحلة ما بعد هزيمة «داعش».
والخشية عند هؤلاء الأكراد ناجمة عن تقديرات بألا تذهب الاستراتيجية الأميركية المنتطرة نحو مواجهة مع الجيش السوري، وأن تفضّل واشنطن الانكفاء التدريجي على ما يقوله خبير دولي.
لكن بقاء الأميركيين في سوريا ــ كما يعتقد الأكراد ــ سيمنع الجيش السوري من التقدم لمواجهتهم إذا فشلت محاولات التسوية التي يعدّ لها الروس. ويقول الخبير الدولي إن «الرئيس دونالد ترامب يفضّل البقاء على انتصار في سوريا، وتقديمه كإنجاز يختم انقضاء عام على فوزه في الانتخابات الرئاسية، على تحويل الميدان السوري إلى ساحة مواجهة مع الروس وإيران وحزب الله والجيش السوري». ويضيف أن ترامب «ربما يميل إلى عقد تسوية مع الروس، بدلاً من الانشغال بمواجهة معهم، وهذا ما أسهم في قيام مناطق تخفيف التصعيد في جنوب سوريا، في الاتفاق الذي عقده الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس دونالد ترامب خلال قمة العشرين في تموز الماضي. كذلك لم يتوقف البنتاغون عن تكرار أن التحالف مع الأكراد عسكري ضد «داعش»، وأنه غير معني بالمشاريع السياسية الكردية».
ويقول المختص في الشؤون السورية في جامعة ستانفورد، فابريس بالانش، إن «الأميركيين قد يضخّمون الأرقام العربية للتدليل على وجود عربي وطمأنة السنّة، وإن الاكراد يريدون إطالة المعارك للحصول على المزيد من الاسلحة، وإن الاميركيين لا يملكون أي استراتيجية لما بعد «داعش» سوى البقاء ربما لعام إضافي، كما أن الأكراد أنفسهم لا يمتلكون أي تصور للتقسيمات الفيدرالية، باستثناء فيدرالية الشمال». إن فرضية التغيير في الاستراتيجية الأميركية للبقاء في سوريا لفترة طويلة تحتاج هي أيضاً إلى تغيير في الفريق الذي يقود هذه السياسة. بيد أن مبعوث الرئاسة الأميركية الخاص إلى «التحالف الدولي»، بيرت ماكغورك، والمبعوث الأميركي إلى سوريا، مايكل راتني، يوفّران استمرار سياسة إدارة أوباما السابقة التي تجنّبت الذهاب أبعد من هدف مواجهة «داعش» في سوريا.