بكل صلف رجال الإمبراطوريّة البريطانيّة التي كانت يوماً وغابت، خرجت أضعف رئيسة وزراء بريطانيّة في تاريخ المنصب لتتبجح بدور بلادها في تأسيس الدّولة العبريّة على أرض فلسطين، والتي كانت ولدت فعليّاً يوم منح آرثر بلفور وزير خارجيّة بريطانيا في الثاني من تشرين الأول عام 1917 في رسالته إلى الرأسمالي اليهودي اللورد ليونيل والتر روثتشايلد أراضي لا تمتلكها الإمبراطوريّة، لشعب لا يقيم فيها وعلى حساب سكان البلاد الأصليين ومن دون استشارتهم

لندن | إنتقل بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى لندن للإحتفال بمئويّة وعد بلفور مع تيريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا. ذلك تماماً هو منطق الأشياء. فإسرائيل بكل تاريخها الأسود وجرائمها وسياساتها الغاشمة وممارساتها اللإنسانيّة ضد الشعب الفلسطيني وشعوب المشرق العربي، لم تكن لتولد يوماً لولا سياسة الإمبراطوريّة البريطانيّة بزرع منظومة استعماريّة غريبة ومسمومة في قلب المشرق.

فالسيّد نتانياهو يعلم أنه في وجود منصبه ولغته ودولته كلها، بتاريخها المستحدث في فلسطين، مدين للأم البريطانيّة الحنون، وأن وعد بلفور قبل مئة عام تماماً من اليوم كان بمثابة إصدار شهادة ميلاد للدولة الدينية العبريّة التي شرع البريطانيون بتأسيسها منذ بعض الوقت، قبل أن تتكرس واقعاً فعليّاً وفق النظام الدولي الجديد الذي أملته نتائج الحرب العالميّة الثانية، وإثر مسرحيّة حرب 1948، بالتعاون دائماً مع الأنظمة العربيّة التي فرضتها بريطانيا في المنطقة.
وعد بلفور نموذج غير مسبوق في تاريخ الديبلوماسيّة أو القانون الدّولي. فالتصرف بأراضٍ غير محتلة كان دائماً نوعاً من مؤامرة خفيّة تجري وراء الكواليس ولا تجرؤالدّول على المجاهرة بها. فلولا الثورة الروسيّة لما علم العالم ربما بإتفاقيّة سايكس ــــ بيكو لتقاسم النفوذ الكولونيالي على بلاد المشرق العربي بين بريطانيا وفرنسا، وذلك عندما قرر الزعيم البولشفي لينين نشر كل فضائح الإستعماريين التي عثر عليها في وثائق النظام القيصري المندثر. لكن البريطانيين كانوا يرون وقتها في فلسطين بقعة استراتيجيّة لحماية مصالحهم، وكانوا عازمين في وقت مبكّر على السيطرة عليها على نحو أو آخر، وهي نيّات تكشفت قبل وعد بلفور من خلال الوضع الخاص لفلسطين في سايكس ــــ بيكو. لكن تراكماً لظروف مرحليّة فرضتها ضرورات الحرب العالميّة الأولى وقوة التمثيل اليهودي في النظام الأميركي جعلت الخارجيّة البريطانيّة ــــ الحريصة على الحصول على دعم واشنطن في المجهود الحربي ضد الألمان ــــ تجد في إصدار تصريح معلن لليهود بالإستيطان في فلسطين وتأسيس دولة دينيّة عنصريّة لهم مخرجاً مريحاً يحقق لها عدة أهداف تكتيكيّة واستراتيجيّة بضربة واحدة، وإن كان ذلك على حساب سكان البلاد الأصليين على اختلاف أديانهم وأعراقهم.

وبالطبع فإن صلف الخارجيّة البريطانيّة، ذلك الحين كان نتيجة توازن القوى العالمي ويعكس واقع أن عهود التخلف العثماني المديدة، والصلات الوثيقة التي نسجتها الأجهزة البريطانيّة مع السلالات المافيوية النسق في المنطقة جعلت أصوات السكان المحليين المعارضة تكاد تختفي في ضوضاء ما يجرى في أوروبا.
بعد صدور هذا الوعد، تشبعت جهود الصهيونيّة العالميّة لتهجير يهود أوروبا بشكل أساس إلى الأراضي (المقدّسة) بنوع من الشرعيّة الدوليّة في نظام علاقات عالمي مشوه ومنحاز، ليندفع مئات الألوف من اليهود الأوروبيين ــــ لا سيما من شرق أوروبا ــــ مسلحين بثقتهم بالدولة العظمى صاحبة الوعد، وبأوهام أسطوريّة عبرانيّة إلى جنوب سوريا ليستكملوا رحلة بناء قاعدة استعماريّة متقدمة تتطلب تطهير المنطقة عرقيّاً ومصادرة مقدراتها وأرضيها.
وقد تمت عمليّة البناء هذه تحت الرعاية البريطانيّة التامة، إذ كان الجيش البريطاني قد احتل فلسطين بالكامل، وقمع مقاومتها بلا رحمة، وعملت سلطات الإنتداب البريطانيّة على التمكين لدولة عبريّة بينما حاربت أي توجه لبناء مؤسسات فلسطينيّة أو أي إرتباط بسوريا الأم، واستدعت لذلك جهود أكبر قوة عسكريّة بريطانيّة عبر الشرق كله، ونسقت بشكل وثيق مع أنظمة المنطقة واليمين الفلسطيني المنحاز إلى من بيده حكم الأيام.
وهكذا عندما أعلنت العصابات اليهوديّة قيام الدولة العبريّة في 1948، كان ذلك نتيجة حتميّة وتحصيل حاصل للإنتصارات المتراكمة على السكان المحليين من قبل البريطانيين خلال الثلاثين عاماً السابقة. وحتى عندما إنسحب البريطانيّون، فإن شرعيّة التمييز العنصري التي تعبق بها رسالة بلفور ضد السكان الأصليين للبلاد من غير اليهود تحولت إلى سياسة رسميّة للدولة الجديدة، تمارسها بذات الصلف والعدوانيّة التي مارستها السلطات البريطانيّة سابقاً مع حقد زائد تبرره الأساطير العبريّة الرّثة.
تتحمل بريطانيا الإمبراطوريّة إذن المسؤوليّة القانونيّة والأدبيّة ليس في تأسيس كيان استعماري ومحتل فحسب، ولكن في كافة جرائم هذا الكيان ضد الفلسطينيين والمستمرة إحتلالاً وإستيطاناً وإعتداءات إلى اليوم، مع سجل يندى له جبين البشريّة من سياسات الفصل العنصري والقتل الممنهج وإخضاع المجتمعات المحليّة. وتمثل رسالة الوعد البريطاني وثيقة دامغة رسميّة على حقيقة الدور الذي مارسته لندن في هذا الشأن.
ربما لم يخطر بذهن الساسة البريطانيين وقت إصدار وعد بلفور، بأن ذلك الكيان الذي تحدثوا عنه سيعيش لمئة عام، وحتى السيّد بلفور نفسه لم يكنّ كبير محبّة لليهود. لكن الأيام تغيّرت، وتحولت أوروبا برمتها تقريباً إلى ديمقراطيّات حديثة، وتوقفت الحروب بين أممها، ولم يعد من الممكن تقبّل الرأي العام فيها لإحتفالات بدوام الإحتلال وإستمرار مفاعيل الخطيئة ــــ على صيغة مئويّة وعد بلفور. كما أن بريطانيا نفسها ــــ لا سيما إذا نفّذ مشروع الخروج من الاتحاد الأوروبي ــــ لم تعد سوى جزيرة صغيرة مأهولة تعاني إنقساماً مجتمعيّاً وطبقيّاً، وخطر تفتت المملكة نتيجة انفصال الأقاليم كأسكتلندا، وإيرلندا الشماليّة.
ولذا فإن مشاركة بريطانيا الرسميّة المعاصرة في إحتفال مئوية وعد بلفور يكاد يكون جرماً لا يقل عن جرم السلطات الإمبراطوريّة قبل قرن من الآن، وهو يؤكد لكل عاقل بأن النفس العنصري المتجذّر في ثقافة النخبة البريطانيّة لم يتغيّر، وبأن عقليات نخبة القابضين على البلاد ما زالت تخضع للإسرائيليات والأساطير الدينيّة والمصالح الرأسمالية والعيش في ظل أوهام الهيلمان الإمبراطوري. هذه العقليّة ذاتها التي تدفع اليوم بإتجاه الخروج من الإتحاد الأوروبي ضد مصالح البلاد، واستمرار دعم السلالات الملكيّة واليمينيّة حول العالم، والمتاجرة بالسلاح والتسهيلات مع أسوأ الأنظمة الديكتاتوريّة من الخليج العربي إلى مجاهل إفريقيا، والمشاركة العسكريّة الفاعلة في حروب أميركا في العراق وأفغانستان وليبيا وسوريا واليمن وغيرها. المجتمع البريطاني شديد الإنقسام بشأن مئوية وعد بلفور. فبينما تحتفل الحكومة مع ضيفها رئيس وزراء الكيان نتانياهو في عشاء رسمي، ويخرج وزير خارجيتها اليمينيّ المتطرف بوريس جونسون ليدافع عن قرار بلاده بإنشاء الكيان بوصفه عملاً يستحق المديح ويستدعي الشعور بالإفتخار وتتردد في جلسة البرلمان المخصصة للمناسبة خطابات استشراقيّة النفس لا تكاد تختلف عن خطابات زملائهم قبل مئة عام، كان جيريمي كوربن زعيم حزب العمال البريطاني المعارض يتجنب دعوة العشاء الرسمي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي للإحتفال بالمئويّة، بينما شهدت بعض الجامعات والأحياء توترات بين الناشطين من داعمي إسرائيل والمطالبين بمقاطعتها، واضطرت اللجنة المنظمة للإحتفال بالمناسبة إلى نقله من حرم جامعة مانشستر إلى قاعة معزولة خارجها.
عند التدقيق فإن رسالة اللورد آرثر بلفور ليست بذات قيمة فعليّة سوى من ناحية رمزيّة لجهة إلتزام بريطانيا ــــ الدولة العظمى حينها ــــ بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. لكنها بما ترتب عليها جريمة لا تغتفر، وبئر مسمومة لا زالت المنطقة تشرب منها علقماً إلى اليوم. لكن الوقائع تقول إن مضمون الرسالة قد تجاوزته المراحل على الأرض لا سيما بعد الحرب العالميّة الثانية وتولي الإمبراطوريّة الأميركيّة الصاعدة مقاليد الأمور في الشرق الأوسط، لكنها تكتسب اليوم معنى آخر كليّاً: مئوية بلفور مناسبة لبريطانيا لإعادة النظر في أمراضها الموروثة ومراجعة تراثها الإجرامي في تاريخ العالم المعاصر، ومن ثمّ الانتقال بالجيل الجديد إلى بناء مجتمع معاصر متحرر من عقد الماضي. لكن شيئاً من ذلك لم يحدث. ولذلك فإن استضافة رئيس وزراء الدولة ــــ الجريمة في لندن يجب أن لا تزعج الفلسطينيين بقدر ما ينبغي لها أن تقلق البريطانيين على مستقبل بلادهم، في ظل حكم النخبة الموهومة التي تقود البلاد.

المصدر: سعيد محمد - الأخبار