لا يكاد زلزال محمد بن سلمان، في السعودية، يكفّ عن إرسال الارتدادات داخلياً وخارجياً. مع ولي العهد، تبدو المملكة كأنها تدخل نفقاً مجهول النهايات. داخلياً، ينقلب الأمير الشاب سريعاً على نظام معقّد تبانى عليه الآباء والأجداد لمصلحة قبضة حكم عمودي تزرع من ورائها الكثير من الألغام. وفي الإقليم، تحاصر الرياض نفسها بنفسها، وتراكم الفشل تلو الفشل، إلى أن ترمي بالمسؤولية خارج أسوارها، متوعّدة بآخر الحروب: «معركة الانتقام»
كل شيء تغيّر. السعودية التي يعرفها الجميع لم تعد «السعودية». تغيّر وجه المملكة الموحدة منذ 85 عاماً (في 1932). ليس وجه هذه البلاد وحده ما تغيّر. النظام برمته، بتركيبته، وتعقيداته، وأصول الحكم فيه، لم يعد كما عرف طوال العقود الماضية. خطورة ما يقدم عليه ولي العهد محمد بن سلمان يكمن في أن «التغيير» الذي ينشد، لا يأخذ بعداً محدد المعالم، ولا يمضي في سيرورة هادئة أو سلسة.
القطاعات جميعها، سياسية وإعلامية ودينية واقتصادية، عرضة لإعصار الأمير الشاب. والعملية لا تسير وفق قاعدة تبديل الحلفاء في هذه الأجنحة والقطاعات بناءً على الولاء الشخصي، فحسب، بل المطلوب «سلمانياً» أن تُستبدَل بالأصول والقواعد الحاكمة أصولٌ وقواعد حديثة، غريبة عن تاريخ المملكة
في الداخل: نظام جديد
في القطاع الديني، يتطلع ابن سلمان إلى تغيير جذري على مستويين: الأول، تهميش السلطة الدينية وتحجيم تدخلها في الحياة الاجتماعية، إلى درجة الانقلاب على التحالف التاريخي مع أحفاد محمد بن عبد الوهاب: آل الشيخ. والثاني، تعديل المفاهيم الوهابية الحاكمة وتطويعها بما يتناسب والنموذج الإماراتي، المصوغ على طريقة «أتاتوركية» أو «بورقيبية»: علمنة اجتماعية في موازاة رجعية سياسية. وهو أمر ينطوي على مخاطر جمة، جراء الصدمة التي يحدثها ضرب نظام ثقافي اعتاده الناس وتشرّبوه جيلاً بعد جيل.
أما في الأجنحة السياسية، فيمكن السؤال بعد «مجزرة الأمراء» الأخيرة: من بقي لمحمد بن سلمان من حلفاء داخل بيت آل سعود؟ آل نايف، وآل مقرن، وآل عبد الله، وآل طلال، وآل فيصل، وآل فهد، وآل سلطان... الجميع لم يسلم من إقصاء نجل الملك وبطشه، أو تجاهله على الأقل. وهذا ليس تفصيلاً لدى العارفين بالتركيبة التاريخية لنظام آل سعود. آل سعود، تلك العشيرة المقدَّر تعداد أبنائها الذين يحملون لقب «أمير» بخمسة آلاف شخص، على الأقل، لطالما اعتادت توازناً داخلياً يحفظ توزيع السلطات والنفوذ وغنائم المُلك. على سبيل المثال، نجح الملك عبد الله، وقبل وصوله إلى العرش، في بناء جيش كامل يتمتع فيه بنفوذ مطلق هو «الحرس الوطني» المشكل من أبناء القبائل، وقام بكل ذلك بحد أدنى من التفاهم مع الملك فهد وآخرين، حفاظاً على اللعبة السياسية. وكان لكل بيت من بيوتات آل سعود دور في أحد القطاعات: آل سلطان في الإعلام، آل طلال في الاقتصاد، آل فيصل في الدبلوماسية... قواعد هذه «اللعبة» أُلغيت تماماً زمن ابن سلمان. لم تكن السعودية مَلكاً ورعيةً مطيعين فحسب، ولم يحصل أن تجمّع النفوذ في قبضة رجل واحد من دون بقية الأمراء، فضلاً عن الحواشي والحلفاء كآل الشيخ وغيرهم. بعبارة أخرى، بقي المَلك الشريك صاحب الحصة الأكبر في نظام الحكم. هذا يقود للاستنتاج أن آل سعود، كما عرفتهم الجزيرة العربية، لم يعودوا موجودين. مع ابن سلمان، يُصنع نظام هشّ يتجاوز بكثير المشيخات الخليجية المجاورة، بعمودية السلطة فيه. والسؤال بعد ذلك عن النظام البديل وإشكالية الحلفاء الجدد ومدى فعاليتهم في تأمين نظام متماسك يحمي المَلك ويسنده.
بعد الألغام التي خلّفتها الحملة على الجناحين السياسي والديني، حلّ الدور على الجناح الاقتصادي، ذلك الجزء من النظام الذي لا يمكن الاستهانة بأهميته. والإشكالية هنا أيضاً إشكالية البديل، ولا سيما بعد أسلوب ابن سلمان الذي أظهره مع الأمراء المتهمين بـ«الفساد»، ما يفقد الثقة في تعامل المستثمرين المحتملين في المملكة، إلى جانب غياب الثقة برؤية ابن سلمان وبرامج التحول عن الاعتماد على النفط. والأزمة في الاقتصاد أزمة مزدوجة، إذ يضاف إلى زلزال حملة الاعتقالات، ما تكشف عنه هذه الحملة من حاجة سعودية ملحّة إلى العوائد المالية. ببساطة يمكن السؤال هنا: كيف لمحمد بن سلمان أن يدعو المستثمرين إلى السعودية، وهو يعتقل المستثمرين داخلها لإجبارهم على التنازل عن ديون الدولة لدى شركاتهم؟! الحملة كشفت بوضوح عن المأزق الاقتصادي الذي يلوح في أفق المملكة. والحاجة إلى الموارد يشرح جزءاً منه حجم الاحتياطي النقدي المتآكل (قرابة 487 مليار دولار)، في مرحلة لم يعد معها النفط يغطي حجم المصاريف، وتبلغ فيها كمية الديون الخارجية والداخلية ما يقارب عتبة الـ100 مليار دولار. ويغامر ابن سلمان بطرح 5% من «أرامكو» للاكتتاب العام في بورصة نيويورك. وهو مشوار غير واضح المعالم ومغامرة غير محسوبة النتائج، وفق خبراء اقتصاديين يشككون بقدرة تحكم الرياض بالعملية، وكون عائدات الطرح للمستثمرين الأجانب أكثر منه للسعوديين، فضلاً عن القيمة السوقية الكاملة لـ«أرامكو»، التي يبالغ محمد بن سلمان في تقديرها، وهي 2 تريليون دولار (قدرت «فورين ريبورتس»، شركة الاستشارات النفطية الأميركية، قيمة «آرامكو» السوقية بما يراوح بين 250 و460 مليار دولار باستثناء قيمة أصول التكرير والنفاذ المضمون إلى النفط والغاز).
في الخارج: «الانتقام» كخيار أخير
ورث الجناح السلماني مطلع عام 2015 مملكة مأزومة وسط غليان إقليمي أطاح أنظمة وصدّع دولاً. الخيار السلماني لإبعاد لهيب التطورات كان الانتقال من «الدفاع» إلى الهجوم المباشر، وخوض الصراعات العسكرية بلا وكيل. وهو خيار يثبت كل يوم أن ما جناه على السعودية لا يقلّ عن خطر الانكفاء والأخذ بالأدوات «الناعمة» في معالجة الأزمات الخارجية. والنتيجة، بعد سنوات من الصراع، لم يبقَ للسعودية سوى اليمن، كساحة لم تحسم فيها المعركة.
العراق وسوريا، فضلاً عن لبنان، هي اليوم ساحات تكاد تخلو من اللاعب السعودي. «الانتصار» للمحور المقابل هو عقدة الحاكم في الرياض الآن. هذا ما بدأ يصارح به الخطاب الإعلامي للسعودية وحلفائها في المنطقة. الحديث لدى هؤلاء الآن هو عن «التوازن» المفقود، حتى في حدوده الدنيا. الاجتماع الأخير، غير المسبوق في الشكل والمخرجات، لرؤساء أركان ووزراء خارجية ما يسمى «التحالف العربي» في الرياض، كان صافرة الانطلاق لحملة تصعيد خارجية محمومة.
حدد الاجتماع «المسؤول» عن الفشل السعودي في اليمن: حزب الله وإيران. خطاب جديد، يأتي بعد ما يقرب الألف يوم من الحرب في اليمن، ليضع السعودية موضع المقر بالفشل، والباحث عن «الانتقام». واليمن هنا، عقدة الأزمة الخارجية للسعودية. معركة الحياة أو الموت في «الحديقة الخلفية»، تدفع الحاكم المتهور نحو «معركة الانتقام» بسقف مرتفع.
ومنذ اجتماع قيادة «التحالف» في الرياض، تصرّ الماكينة السياسية والإعلامية للنظام السعودي، على تأكيد ربط النزاع مع حزب الله وإيران يمنياً، وهو ما تكرر مع إطلاق الصاروخ اليمني على الرياض رداً على مجزرة صعدة، وكذلك إثر الكشف عن منظومة الدفاع البحري اليمنية رداً على توسيع الحصار وإغلاق الموانئ. «معركة الانتقام» التي يخوضها في العادة من يخسر الحرب، يخوضها اليوم من قرر قبل أيام فقط نقل المعركة إلى الداخل الإيراني، وهو مشروع ذهب أدراج الرياح يوم لم تستجب إليه باكستان في البوابة الشرقية، وأسقطه العراق من البوابة الغربية مع إحباط مشروع انفصال البرزاني.
ماذا بقي لمحمد بن سلمان خارجياً أيضاً؟ لا شيء سوى حروب الانتقام غير المحسوبة، والتصميم على هذا الانتقام هو الخيار الوحيد في منظار ابن سلمان، بحسب مواقف فريقه الوزاري وإعلامه المستنفر، في غياب تام للردود الإيجابية على دعوات طهران إلى الحوار، التي أطلق آخرها، أمس، الرئيس حسن روحاني. وثمة من يعتقد من المتابعين أن حملة جمع أكبر قدر من العوائد المالية (تفوق تريليون دولار)، وعلى هذا الوجه من السرعة، تعني أن خزائن ابن سلمان لا بد أن تبقى ممتلئة تلبية لاستمرار خوض الحروب، وبأي ثمن.