لا حديث رسمياً في أنقرة عن التطورات الحاصلة في السعودية. أما الجو العام، بين بعض الباحثين والصحافيين، فهو شبه القناعة بإخفاق قيادة «العدالة والتنمية» بسياستها الخارجية، وهو ما يجعلها تقف صامتة وحائرة أمام أي تطور لافت يجري عند جيرانها في العالم العربي
من غير المألوف أن تلزم أنقرة «العدالة والتنمية» الصمت تجاه أزمات جيرانها في الشرق الأوسط، فهي عادة ما تتدخل مباشرة عبر اتخاذ موقف، وتقديم خدماتها الدبلوماسية والعسكرية، وهذا هو التوجه العام الذي يسير به الأتراك، فيما في حالات أقل تطرفاً، لا تخجل أنقرة من تقديم رأيها دون الحاجة للتدخل المباشر.
إن النمط المباشر في التفاعل بنحو متكرر بدأ منذ قدوم «العدالة والتنمية» إلى الحكم، ويمكن تتبع بداياته إلى الغزو الأميركي للعراق في عام 2003. حينها، بدا أن تركيا باتت تجد نفسها معنية بشدة بأزمات العالم العربي، وفضّلت ألا تدعم خطوة حليفتها التقليدية الولايات المتحدة، لأسباب عدة، داخلية وخارجية.
وتطورت تلك الرؤية التركية تجاه العالم العربي، وظهرت بوضوح أكثر في موقفها «الداعم» للقضية الفلسطينية، الذي تُرجم في رفض الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2008. هنا أيضاً تحدّت حلفاءها التقليديين، ورأت أنها لا تستطيع الوقوف على الحياد، ليتبيّن أكثر فأكثر أنها معنية مباشرة بما يحصل من حولها. لم تعد دولة ذات سياسة خارجية سلبية، بل تحولت إلى طرف قادر إلى حدٍّ ما على تغيير التوازن في بعض الأحداث في الشرق الأوسط.
وبطبيعة الحال، جاء التدخل التركي في الأزمة السورية، بعدما بيّنت موقفها من الأحداث السابقة للأزمة في الدول العربية، ليكون الترجمة الأكثر وضوحاً للسياسة التدخلية التركية وتطورها، وصولاً إلى التدخل العسكري المباشر. إن دعمها المباشر للأطراف الإسلامية ضد الحكومة السورية تأكيد بأنها لا ترى نفسها طرفاً خارجياً، بل قوة داخلية. وترجم ذلك أيضاً في عمليتها العسكرية في آب 2016 في شمال سوريا التي أطلقت عليها اسم «درع الفرات»، والتي شكّلت، بالإضافة إلى المرحلة التي تلتها (الإدارة الذاتية التي تقودها تركيا في جيب جرابلس ــ الباب)، أوضح انعكاس للأسلوب التركي في التعاطي مع المحيط الشرق أوسطي. أخيراً، شكّلت أزمة قطر التي وقعت الصيف الماضي المثال الأكثر حداثة للقناعة التركية بضرورة تدخلها في أزمات العالم العربي، كطرف مباشر، دون الأخذ بالاعتبار، حتى الآونة الأخيرة، ما قد يسببه لها ذلك من أضرار.
أما الآن، فتشاهد أنقرة بصمت ما يحصل، في الشأن الداخلي السعودي وعلى صعيد تدخل الرياض في الشأن اللبناني وما يعنيه ذلك من نزاع مع إيران. تراقب تطور الأحداث، في سابقة لا تشبه تهور الرئيس رجب طيب أردوغان، فيما يوجد خشية في أنقرة، كما أشارت الكاتبة التركية في «دايلي صباح»، هلال كابلان، أن تصبح تركيا هدفاً «للمحور المناهض لإيران» أي «الولايات المتحدة والسعودية والإمارات وإسرائيل»، بسبب «إغضابها للسعوديين بعد دعمها غير المشروط لقطر».
وربما حاولت أنقرة التريث حتى تتمكن من تقدير موقفها. وينبع ذلك من واقع إدراك القيادة التركية أنها باتت في مرحلة لا تستطيع فيها القيام بأي خطوة غير محسوبة، فإن أي تصرف غير واضح النتائج من شأنه أن يخسرها الكثير في الشرق الأوسط. فقدت السياسة الخارجية التركية قدرتها على التأقلم مع المستجدات المتسارعة في المنطقة، إضافة إلى فقدانها للمرونة الضرورية التي لا تجعل تركيا معرضة لخسارات كبيرة. تعاني الرؤية التركية للسياسة الخارجية أيضاً في هذه المرحلة من فقدان الإحساس بالأهمية، ممزوجاً بشعور بالإحباط والملامة تجاه كل من اعتمدت عليهم في العالم. من دون شك، تريد أنقرة أن تكون حاضرة، فإن عدم رغبتها في الوجود يتناقض مع عقلية سلطة «العدالة والتنمية»، لكنها تحاول التريث بعد توصلها إلى نتيجة مفادها أنها لن تتحمل اليوم خسارة أي طرف. فقدت الترف، بعد دخولها المعقد والمليء بالعقبات في الحرب السورية، بالمضي قدماً بأيّ أجندة خاصة بها في المنطقة. ويبدو أن أنقرة تدرك أنها لا تستطيع أن تبحر بعيداً أكثر عن روسيا وإيران، لكنها غير قادرة أيضاً، في الأزمة الحالية، على أن تتخذ موقفاً تفضّل فيه طهران على الرياض.
ولا بد من الإشارة هنا إلى ما ذكره الباحث التركي، غالب دالاي، في مقال في «دايلي قرار»، وهو أن سير العلاقة مع روسيا وإيران ليس في الواقع كما تحاول القيادة التركية إبرازه، أي بمعنى أن أنقرة تحاول أن تسوّق لنجاح سياساتها في المنطقة، فيما الواقع عكس ذلك.
هذا لا يعني بالضرورة أنها لا تشعر بنوع من المرارة غير الجديدة تجاه السعوديين، وولي العهد محمد بن سلمان خصوصاً، الذي سرق «الإسلام المعتدل» من النظام التركي. وقد وجدت تركيا في «الإسلام المعتدل» العلامة الفارقة في العالم الإسلامي التي كانت على قناعة تامة بأنها تجعلها بمثابة الأخ الأكبر لجميع المسلمين في المنطقة، وجاء إخفاقها بذلك، إلى جانب تبني السعودية، الحليفة البارزة الأخرى للأميركيين، لهذا الدور، بمثابة مؤشر إضافي على إخفاق تركيا في دورها الذي أرادت.
كانت زيارة أردوغان للرياض بعيد الأزمة القطرية، الصيف الماضي، مؤشراً على التشتت الذي تعاني منه تركيا، بالإضافة إلى زيارته لروسيا في أيار 2017. لقد جاءت كشعور بعدم القدرة على خسارة الجميع، تركيا تريد أن تكون معنية في أزمات المنطقة، لكن لا تستطيع سوى التزام الحذر حفاظاً على مصالحها. وحاول الرئيس التركي في جولته الخليجية تلك إحداث توازن بين دعمه لحلفائه من جهة (قطر) والإبقاء على تواصل إيجابي مع «القادة السنّة» في المنطقة، وخصوصا السعودية. وذاك التصرف التركي مدفوع أيضاً بإدراك تركيا أنها لا تتحمل تكلفة تخبط العلاقة مع الرياض، لا معنوياً ولا اقتصادياً.
يمكن التصرف التركي في الأزمة القطرية أن يشكّل دليلاً على المعضلة التركية اليوم: تركيا لا تريد خسارة أحد، لكنها لا تريد أن تعود إلى عزلة الماضي، وعدم الخسارة يكون بخيارات خارجية أقل تهوراً من خيارات الماضي القريب، خصوصاً الخيارات في سوريا.
من هنا، إن الصمت بالنسبة إلى أنقرة، تجاه الأحداث الجارية اليوم، هو الخيار الأفضل، والذي يترجم بعدم رغبتها في كسب المزيد من الأعداد في كافة المحاور المتنازعة في المنطقة بعدما بات الخروج من سوريا احتمالاً فيه الكثير من التدمير المعنوي. لذلك، يقترح الدبلوماسي التركي، عثمان كروتورك، أن تكون أنقرة أكثر تقليدية في سياستها الخارجية تجاه الشرق الأوسط، بقوله إن على «تركيا أن تحرر نفسها من التشابك المذهبي» في حوار مع صحيفة «آل مونيتور»، قبل يومين. وتابع الدبلوماسي السابق قائلاً إن بعودتها إلى تلك المرحلة من السياسة الخارجية العلمانية، حينها فقط تقدر على أن تقدم خدماتها «في الوساطة بين إيران والسعودية».