خطوة خطوة تشقّ قضية الرئيس المحتجز سعد الحريري طريقها نحو التدويل، وصولاً إلى طرحها أمام مجلس الأمن. التوقيت لا يزال بيد الراعي الفرنسي للملف اللبناني في المحافل الدولية. هو حدث دبلوماسي فرنسي بامتياز يشهد انعطافة كبيرة بعد 14 عاماً من سياسة انحياز ثلاث إدارات فرنسية متتالية، الى الاستراتيجيات السعودية تجاه المشرق العربي وإيران.
ويستفيد لبنان من هذه الانعطافة في لحظة اندلاع مواجهة مع السعودية التي لم تدرك حتى الآن حقيقة التغييرات التي طرأت على الدبلوماسيات الغربية، ولا التوازنات التي انقلبت في ميادين اليمن وسوريا والعراق.
لكن القرار الفرنسي اللبناني بالذهاب الى الأمم المتحدة لا يزال يمنح نفسه مهلة لعودة الحريري خلال اليومين المقبلين.
الخيار الدولي يبدو الأكثر ترجيحاً، فرنسياً، حتى الآن، بعد استياء الجانب السعودي من أداء الحريري في المقابلة التلفزيونية، التي سُمح له بها ليل أول من أمس، والتي أفضت الى نتائج عكسية غير منتظرة أعادت الأمور الى المربع الأول سعودياً. مصدر فرنسي رفيع المستوى في الإليزيه أكد، خلال لقاء مغلق مع صحافيين عرب وفرنسيين، احتمال الذهاب قريباً الى مجلس الأمن، واضعاً ضمناً مساء الأربعاء نهاية مهلة زمنية لعودة الحريري إلى بيروت، وإلا فإن اللقاء الذي يعتزم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عقده في اليوم نفسه مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، على هامش مؤتمر المناخ في «بون»، سيكرس لاستئناف مشاورات بدآها قبل يومين، لتحديد إطار أممي لمعالجة قضية الحريري.
ماكرون حادث غوتيريش هاتفياً لبحث «مبادرات يمكن اتخاذها في إطار الأمم المتحدة» كما قال المسؤول الفرنسي، وكما عبّر عن ذلك في ما بعد بيان مقتضب صدر عن الإليزيه. لكن الترجمة العملية لذلك تبقى رهن احتمالين: أولهما أن يطلق السعوديون سراح الحريري قبل الخميس، فيعود الى بيروت، وتنطلق الآلية الدستورية بين استقالة أو استعادة للحياة الحكومية وتطبيع الأوضاع، وتقاطع التوقيت الفرنسي مع ما قاله الوزير جبران باسيل من اعتباره الخميس مهلة نهائية قبل الانتقال الى التدويل. وهي المرة الأولى التي يتحدث فيها وزير الخارجية باسيل علناً عن خيار مواجهة السعوديين في الأمم المتحدة.
ثاني الاحتمالات، بحسب المسؤول الفرنسي، هو «مضمون الرسالة الشديدة الأهمية التي يحملها الموفد الرئاسي اللبناني الوزير جبران باسيل اليوم الى الرئيس» الفرنسي. والأرجح أن تحمل رسالة الرئيس ميشال عون اقتراحات صيغة للتحرك دولياً، كان المستشار الدبلوماسي أوريليان لوشوفالييه قد جاء بها الى بعبدا الأسبوع الماضي. وإذا ما اختار اللبنانيون اعتبار أن قضية احتجاز الحريري تمسّ الأمن والسلامة، وعنصر تهديد للاستقرار في لبنان، (وهو ما تعج به تصريحات الوزير السعودي ثامر السبهان، حسبما قال خبير دبلوماسي لـ«الأخبار») فمن المؤكد عندئذ أن يذهب لبنان الى مواجهة مع السعودية في مجلس الأمن بحماية فرنسية. ومن المرجح في هذه الحالة، أن تدعو فرنسا الى اجتماع مجلس الأمن، كخيار أول، كما يقول خبير دبلوماسي في نيويورك، لبحث الأوضاع في لبنان، وقضية الحريري.
الفرنسيون رفعوا من نبرة خطابهم تجاه السعودية، رافضين اعتبار رئيس الحكومة مستقيلاً، في تطابق مع القراءة الدستورية اللبنانية لآليات الاستقالة. وكان لافتاً ما قاله المسؤول الفرنسي عن الاتهامات السعودية لإيران و«حزب الله» بالتورط بإطلاق صاروخ من اليمن على مطار الملك خالد الدولي في الرياض، قائلاً إنه «ليس هناك دلائل لدينا على ذلك، وإن التحقيقات ستحدد المصدر». وكرر ما قاله الرئيس ماكرون في أبو ظبي من أنه سمع «مواقف قاسية جداً ضد إيران لا أشاركها، ولا أقبل بسياسة شديدة الغلو».
وكان لافتاً أيضاً عدم انضمام فرنسا الى الحملة السعودية التي تهدف الى وصم حزب الله بالإرهاب، في قطيعة مع إدارة فرنسوا هولاند التي رضخت لمطالب سعودية ــ إسرائيلية في حزيران عام 2013، وقادت حملة ضد «حزب الله» أدت الى وضع جناحه العسكري على لائحة الإرهاب. وفي إطار عملية إعادة التموضع التي يقودها ماكرون في الخليج، بعد فشل سياسة رهن السياسة الخارجية الفرنسية بصفقات الأسلحة مع السعودية، قال المسؤول الفرنسي «إن أعضاء السفارة الفرنسية في بيروت سيواصلون التحدث الى «حزب الله»، وإن أعضاء «حزب الله» لبنانيون».
وأظهرت أزمة الحريري نضوج اتجاه واسع لإجراء تعديلات في السياسة الفرنسية في المنطقة، والتي كانت تستند بشكل خاص الى مواجهة إيران، علماً بأن ماكرون كان قد قال في خطابه أمام مؤتمر السفراء الفرنسيين نهاية آب الماضي «إن سياسة فرنسا لا ينبغي أن تكون أسيرة فئة محددة» في الشرق الأوسط . وقال المسؤول الفرنسي «إن فرنسا باتت تتموضع في الوسط بين الشيعة والسنة في المنطقة» بعد عقدين من الانحياز الى الدول الخليجية. ويعكس الانحياز الفرنسي للبنان مخاوف حقيقية من انفجار بنيانه الهش تحت الضغوط السعودية، وخروج مليون ونصف مليون لاجئ سوري عن السيطرة داخل الجدران اللبنانية التي يعمل السعوديون على تصديعها. ويخشى الفرنسيون، ومن خلفهم الأوروبيون، عودة أمواج اللجوء عبر المتوسط الى أوروبا إذا ما اتجه لبنان نحو الفوضى. وكرر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان لليوم الثالث على التوالي دعوته الى «حرية حركة» الحريري. وقال المسؤول الفرنسي في الإليزيه «إن شروط الخروج من الأزمة واضحة، وهي تطبيع الأوضاع وتطبيق الدستور اللبناني، وأن يتمكن الرئيس الحريري من تقديم استقالته الى رئيس الجمهورية، إذا ما أراد ذلك، وعندئذ، يتم تكليف رئيس جديد بتشكيل الحكومة، فيما تقوم حكومة الحريري بتصريف الأعمال».
وبالتوازي مع بدء تحديد إطار أممي للتحرك في قضية الحريري، قال المسؤول الفرنسي إن لودريان سيتابع اتصالاته بعد غد الخميس في الرياض من أجل إعادة الحريري «الذي لا يزال رئيساً للوزراء لأنه لم يقدم استقالته بنفسه الى الرئيس عون بشكل دستوري». واتهم المسؤول الفرنسي السعودية بالتسبب في التوتر في لبنان، من خلال احتجازها الحريري، مضيفاً «إن هذا التصعيد سببه إعلان استقالة الحريري في الرياض». ولا يبدو أن السعوديين قد فهموا الرسالة الفرنسية الداعية الى تحييد لبنان عن صراعات المنطقة، إذ قال المسؤول الفرنسي إن الرئيس ماكرون، طلب في لقاء الثلاث ساعات مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان «أن تسهم المملكة في حفظ استقرار لبنان، وإبعاده عن الاضطرابات الإقليمية، وفك ارتباطه بأزمات المنطقة»، وهو ما تصم الرياض آذانها عن سماعه حتى الآن.