شكل العقل الأداتي أحد أبرز مداميك مرحلة الحداثة وما بعد الحداثة، هذا المفهوم أرساه صاحب نظرية البيروقراطية الإدارية عالم الإجتماع السياسي ماكس ويبر.
ويقصد بالعقل الأداتي ذلك النمط من التفكير الذي يعرّف مشكلة ما و يسعى لحلها مباشرة دون تساؤل عن مضمون هذه الحلول و الغايات وما إذا كانت إنسانية أو معادية للإنسان. فلا مكان للقيم أو الأخلاق أو الدين في تقييم وتحديد مسارات حل المسائل ومعالجة المشكلات، بل مجرد خطوات مقننة صماء تصلح لكل زمان ومكان.
أرست الحضارة المادية للغرب مباني فكرية وايديولوجية تقوم على تسخيف الفلسفة وكل الأسئلة الوجودية والإيديولوجيات والبحث عن المفاهيم الكلية، لصالح العلم التجريبي والتقنية، فتقدمت الكيف على حساب اللماذا، وغابت المبادىء والثوابت لتحل محلها الأدوات والكيفيات.
فالعالم اليوم مليء بالمتخصصين في ظل ندرة العقلاء. متخصصين في كافة المجالات يتقنون الكيف والأداء بطريقة صحيحة، مع قلة من العقلاء يبحثون في الأصول والغايات ويسعون للوصول الى الطريق الصحيح. فليس المهم فقط أن تحسن السير بل الأهم أن تسير على الطريق الصحيح.
العقلانية المطلوبة هي تلك الباحثة عن المفاهيم الكلية والأسئلة الوجودية وأسس ومباني وأصول الطروحات الفكرية. وقد أمعن الغرب بتحييد الدين والأخلاق والفلسفة عن المجال العام للحياة.  
منذ ذلك الحين تشكّلت أسس المجال العام المرتكزة على العقل الأداتي دون أي دخالة لأي إعتبار ديني أو إنساني.
ما شهدته البشرية على مدى المئتي عام المنصرمة من حروب وإبادات واستعمار واحتلال ومجاعات وزرع للغدة السرطانية إسرائيل في قلب العالم الإسلامي لهو أوضح دليل على تهافت الحضارة الغربية وأسسها ومبانيها.
فاستناداً لكذبة أسلحة الدمار الشامل احتلت العراق، وقبلها وتحت حجة قتال تنظيم القاعدة دمرت أفغانستان، وبعدها جيء بالمد الظلامي التكفيري من كل دول العالم لإسقاط عالمنا العربي والإسلامي، وقبلها وبعدها الأزمات الاقتصادية وتحكّم ما يقل عن الواحد بالمائة من مجموع سكان العالم بما يزيد عن نصف ثروة العالم.
لم تكتف الأداتية برسم معالم المشهد السياسي والاقتصادي للعالم، بل تعدت ذلك وصولاً للمجالين الثقافي والفكري لتستولد حفنة من أدعياء العلم والفكر والثقافة، فالغاية هي الحصول على الشهادة أو البوست أو الانتماء لعائلة الصالونات أصحاب الياقات أو الدشاديش المطرزة.
حفنة من البشر تعيث في الأرض فساداً محصنةً بنتاجات العقل الأداتي من نوع صفة إعلامي كبير أو سيدة موضوعية أو ناقد لاذع، وغيرهم من أصحاب السعادة والنيافة والسمو والجلالة، فالمهم أن تنتسب لتلك الفئة المختارة من قطيع الذئاب والثعالب كي لا تُسأل عما تفعل. هذا لا يعني ان كل حامل شهادة او صاحب ياقة أو دشداشة هو من صنف تلك الحفنة، بل ما نقصده، الإضاءة على ما قدمته الأداتية اليوم من ميكافيلية حاكمة على سلوك البشرية حتى صارت تشكل معيار كل نجاح أو تقدم.
لقد أتحفتنا الأداتية حينما حولت الطبيب إلى تاجر والمشفى إلى متجر، والسياسة إلى مسرحية يجيد لاعبوها التمثيل، والمدرسة إلى مشروع استثمار مالي، والرياضة إلى ميدان للرهانات والارتشاء، ووسائل الإعلام إلى دكاكين لبيع المواقف والتصريحات وعرض السلع من صنف المثقفين والمتنورين أصحاب رسالات السلام والرقي.
الأداتية تعني تمكين وسيطرة التقانة والآلة والتكنولوجيا على عقول وقلوب الناس، فتحيلهم الى أشياء مستهلكة أو وسائط إنتاج أو أرقام في معادلة الربح السريع.  
عودة الدين لمجال الحياة العامة هو المخرج الوحيد لإنقاذ البشرية، شرط أن ينجح أصحاب الطرح الديني بتقديمه ديناً قادراً على الإجابة عن كافة التحديات والاستحقاقات، ديناً يستوعب التنوع والتعدد والاختلاف، ديناً تنصهر فيه المادة والمعنى فتحيل الوجود حياةً طيبة تخرج معها البشرية من ظلمات الإقصاء والقهر والتهميش إلى نور الطمأنينة والهدى والقرب.
حتى ذلك الحين، ونحن في خضمه، يبقى السؤال الأساس والذي يعيد طرح نفسه في ظل ما يسمى اليوم بمرحلة ما بعد العلمانية، هل للدين قدرة على إدارة الحياة؟ الإجابة عن هذا السؤال قد تكون بالسؤال الآخر وهو هل يمكن للدين ان يبني حضارة تتماشى مع القرن الواحد والعشرين؟ التحدي كبير ولكن يبقى الإيمان أساس كل نجاح ومصدر كل قوة. 
دمتم على إيمان.

المصدر: خاص شاهد نيوز