الحرب على «داعش» في الشرق السوري شارفت على نهايتها. الأميركيون الذين أوقفوا عمليات حلفائهم الأكراد شرق الفرات، وأنهوا طلعاتهم الجوية فوقها، استخلصوا النتائج، وجمعوا قادة «وحدات حماية الشعب» الكردية والقوات العشائرية العربية التي تشاركهم الحرب لا قيادتها، وأبلغوهم أن لا أسلحة ثقيلة بعد اليوم، وأن عليهم إعادة ما بحوزتهم منها، والتفاهم مع العرب لتسليمهم إدارة المجالس المحلية في مناطقهم

موسم الأخبار الأميركية السيئة لـ«وحدات حماية الشعب» الكردية، يبدو أنه قد بدأ يضع حداً لصعود القوة الكردية في الشمال السوري، وإحداث توازن عربي ــ كردي، وطمأنة تركيا ـ رجب طيب أردوغان.
فمن «البنتاغون» أولاً، حيث منح الناطق العسكري باسمه، إريك باهون، صدقية غير مسبوقة، وللمرة الأولى لتصريحات الرئيس التركي عن تلقيه تعهدات من نظيره الأميركي دونالد ترامب، وبأنه أصدر تعليمات بعدم تقديم أسلحة إلى المقاتلين الأكراد الذين تعتبرهم أنقرة تهديداً.

الأتراك تحدثوا منذ أشهر عن تعهدات مماثلة، لكن من دون أن يصدر عن البيت الأبيض ما يشي بقرب تنفيذها. إريك باهون تحدث أيضاً عن «مراجعة جارية لتعديلات وشيكة للدعم العسكري المقدم لشركائنا الأكراد، بقدر ما تسمح المتطلبات العسكرية لهزيمة داعش، وإرساء الاستقرار». طائرات «الهركيليس» الأميركية الضخمة، سلّمت شحنة أخيرة من الاسلحة الثقيلة أول من أمس في مطار الرميلان، بحسب ما قالت مصادر معارضة في المنطقة لـ«الأخبار».
الأخبار الأسوأ جاءت من الرقة، إذ قال مسؤول عشائري عربي كبير في الشمال السوري لـ«الأخبار» إن اجتماعاً واسعاً عُقد في القاعدة العسكرية الأميركية على أطراف مدينة الرقة، قبل أربعة أيام، وكُرّس لقضايا الدعم العسكري الأميركي، شارك فيه مسؤولون عسكريون أميركيون وأكراد وعرب في قوات «قسد». وأبلغ الأميركيون من حضر أن «العمليات ضد داعش تشارف على الانتهاء، وأن المهمة الأساسية لـ(قسد) قد أنجزت، ولم يعد بوسع الجانب الأميركي تقديم أي أسلحة ثقيلة لكم، وعليكم أن تغيروا استراتيجيتكم». العمليات العسكرية الكردية ضد «داعش» توقفت بالفعل منذ خمسة أيام شرق الفرات، قبل أن تُستأنف، أول من أمس، لساعات بالقرب من الحدود العراقية السورية، لتعود فتهدأ مرة ثانية، من دون تفسير من الجانب الكردي.
ولم تتوقف البلاغات الأميركية عند هذا الحد، إذ طلب الأميركيون من القادة العسكريين في «قسد» الاستعداد لتسليم الأسلحة الثقيلة التي تسلموها خلال المعارك ضد «داعش»، في مهلة ستحدد قريباً. وخاطب الأميركيون المسؤولين العرب العسكريين بأن عليهم العودة إلى مناطقهم في منبج والرقة ودير الزور والحسكة، لتسلُّم «المجالس المحلية»، وإدارتها. وقال المسؤول العربي إن ورشات عمل مدنية بدأت في تركيا، لتشكيل مجالس محلية عربية، وإن تدريبات ستستمر من أربعة إلى ستة أشهر، لتشكيل وحدات دفاع مدني وأمن وشرطة.
الخطوة الأميركية لا تعني التحضير لأي انسحاب من الشرق السوري. على العكس من ذلك. يقول خبير دولي يعمل في إحدى منظمات الوساطة إن الهدف الأميركي «هو إحداث توازن بين العرب والأكراد في الجزيرة السورية، تمهيداً للبقاء فيها، وفق استراتيجية جديدة». ويقول الباحث الفرنسي فابريس بالانش الذي يعمل في معهد «هوفر» للأبحاث إن الأميركيين «توصلوا إلى استراتيجية جديدة، وإن القول إنهم لا يمتلكون استراتيجية واضحة، أو أهدافاً في سوريا ما بعد داعش، ليس صحيحاً».

يبدو خيار البقاء في سوريا، قراراً للبنتاغون، قبل أي أحد آخر، بعد تراجع دور وزارة الخارجية في آلية اتخاذ القرار داخل الإدارة الاميركية. القرار توصلت إليه أيضاً مراجعات وكالة المخابرات الوطنية، التي تضم 18 جهاز استخبارات في الولايات المتحدة. البنتاغون مع البقاء، لأن العسكريين قاتلوا طوال الأعوام الثلاثة الماضية إلى جانب الأكراد. أما وكالة المخابرات الوطنية، فهي على خط وسطي واقعي، يفهم المخاطر الجيوسياسية، ويعي المشاكل التي تثيرها مع الأتراك السياسة الأميركية بدعم الأكراد. الـ«سي آي إي»، أقرب إلى الموقف التركي، وهي التي أوقفت منذ عام برنامج تسليح المعارضة وتدريبها، كما يقول بالانش «لأنها تتفهم المخاوف التركية، وتتقاسمها، وتعرف أن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا، هو امتداد لحزب العمال الكردستاني (الإرهابي)، وهي لا تزال تتبادل المعلومات مع الأتراك بشأنهم، لكن قرارها لا يزن إزاء تحالف البنتاغون، وهي مجبرة على تنفيذ السياسة التي يقررها البيت الأبيض».
ويبدو أن الولايات المتحدة تتجه إلى البقاء حتى عام ٢٠٢١، وانتهاء ولاية الرئيس بشار الأسد: «القرار بالبقاء حتى انتهاء ولاية الأسد يهدف إلى الضغط على المسار السياسي في دمشق من وادي الفرات، وفرض تنازلات سياسية على دمشق والتأثير على التسوية التي ستحدد مستقبل سوريا». يعتقد الأميركيون أنهم حازوا عبر عمليات «قسد» أوراقاً مهمة جداً في سوريا. كذلك إن السيطرة على أكبر حقول النفط والغاز في العمر والجفرة والصبيخان ومنشأة الكونيكو والرميلان، تجرّد دمشق من ورقة ضرورية للسيطرة على مواردها النفطية، وتجعلها أكثر مرونة في التعاطي مع المطالب الكردية.
الأميركيون يعتقدون أن بقاءهم ضروري في الشرق السوري لإغلاق الممر بين دمشق وبغداد وطهران. يقول فابريس بالانش إن «الأميركيين يتعرضون في قرار البقاء لمواجهة إيران من سوريا واحتوائها في الشرق إلى ضغوط اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، لإعطاء ضمانات أمنية لتل أبيب بالسيطرة على خط إمداد إيراني استراتيجي إذا ما تطورت المواجهة مع إيران في المنطقة». إن «إغلاق الممر الإيراني ــ العراقي سيكون صعباً» يقول خبير دولي، لكن بوسع الأميركيين إبطاء التمدد الإيراني، وعرقلته لطمأنة حلفائهم لا أكثر، كذلك إن استمرار الحضور الأميركي سيمنع العشائر ومقاتليها من العودة إلى أحضان دمشق، خصوصاً أنهم «تلقوا خلال معارك دير الزور ضمانات بألّا يسيطر الأكراد على مناطقهم، وهي ضمانات قابلة للنقاش».
ويبدو القرار بالتوقف عن تسليح الأكراد متعدد الجوانب، ولا يهدف إلى إرضاء الأتراك فحسب، فهو أيضاً تمهيد لشق الجناح العربي الذي يمثل أكثر من 27 ألف مقاتل عربي من أصل 50 ألفاً تضمهم «قسد»، وتشكيل جيش عشائري عربي في الجزيرة السورية، يتبع قرار البقاء الأميركي. كذلك إن قرار تسليم الإدارات المحلية التي يسيطر عليها الأكراد إلى العرب والعشائر المحلية، يهدف إلى خلق سلطة محلية عربية تناوئ دمشق، وتشكّل نقطة ارتكاز إضافية لفرض تنازلات سياسية على دمشق، ما بقيت القوات الأميركية في المنطقة. لكن الحفاظ على ولاء العشائر لن يكون سهلاً، إذ بمجرد انطلاق مرحلة إعادة الإعمار لن يكون بوسع الأميركيين ولا الأكراد تنفيذ أي إعادة بناء مع رفض الأتراك ودمشق تسهيل العملية على فَرَض «موافقة الاتحاد الاوروبي، الذي تضغط عليه واشنطن لتمويل إعادة ترميم أو إعمار جزئي للمدن المدمرة شرق الفرات» يقول خبير دولي.
وسترفض العشائر في المنطقة العودة إلى مدن مدمرة، ولا سيما في الرقة التي تحولت ركاماً، فيما تشهد المناطق التي تسيطر عليها دمشق عمليات إعادة اعمار وخدمات، لن يتمكن الأميركيون من منافستها.
ويدير الأكراد تحت المظلة الأميركية منطقة تتجاوز مساحتها الخمسين ألف كيلومتر مربع، وبحسب تقييم فابريس بالانش، وهو عالم جغرافيا أيضاً عمل سنوات طويلة في الشمال السوري، لا يزال ثلاثة ملايين سوري يقيمون فيها، أقل من النصف هم من الأكراد. ويعكس صعود العرب في قلب القوات الكردية عدم تجانس المشروع الفيدرالي الكردي من الآن فصاعداً مع تركيبته العسكرية والسكانية، خصوصاً أنه بات يستند للسيطرة على العرب إلى قوة عسكرية تطغى عليها أكثرية عربية، ولا تشاركها الخطاب الإيديولوجي ولا الأهداف، وكانت قد التحقت بها بسبب غلبة القوة الأميركية ولمواجهة «داعش» التي دمرت حواضرهم واقتصادهم.
لكن استراتيجية البقاء الأميركية تصطدم أيضاً بجملة من العوامل والديناميكيات المحلية الاجتماعية والاقتصادية التي تشغل الشمال السوري، والتي لا يمكن السيطرة عليها، خصوصاً أن الحرب على «داعش» قد انتهت. كذلك بدأ التحالف العربي الكردي يواجه اختبارات صعبة، في ظل رفض الأكراد «لاستقلال المجالس المحلية العربية». إذ واجهت حملة تجنيد إجبارية نظمها «مجلس منبج العسكري» تظاهرات واحتجاجات في المدينة التي لم تتعرض لتدمير كبير، بعد أن خرجت منها «داعش» دون قتال تقريباً.
كذلك إن الدعوة الأميركية إلى تسليم المجالس المحلية تشمل مناطق سيكون صعباً على الأكراد التخلي عنها في العمق العربي الذي وفّر لها مجالاً حيوياً اقتصادياً وعسكرياً بعيداً عن الممر الحدودي الطويل، ويعني القرار الأميركي الانكفاء إلى الممر الضيق الذي لا يتعدى عرضه الخمسين كيلومتراً في موازاة انتشار الجيش التركي على طول خط السكك الحديدية الحدودي بطول ٥٠٠ كيلومتر.
وخلال الأسبوع الماضي تزايدت احتمالات تخلي التحالف الدولي عن «وحدات حماية الشعب» مع تصاعد وتيرة التهديدات التركية حول عملية وشيكة لمحاصرة عفرين. وكان الناطق باسم التحاف الدولي، ريان ديلون، قد أنذر «الوحدات» فيها قبل أيام بأن «التحالف لن يقدم أي مساندة عسكرية في المنطقة لأي قوة لا تقاتل داعش»، في رسالة واضحة للأتراك الذين يتجمعون في المنطقة، وتعبيراً عن استياء أميركي قديم من الدور الذي لعبه أكراد عفرين في دعم عملية الجيش السوري ضد المعارضة المسلحة في مدينة حلب.
كذلك فإن الاستراتيجية الأميركية لا يتهددها فحسب احتمال اشتعال مواجهات عربية كردية خلف خطوط التماس الجديدة التي يحاول الأميركيون تثبيتها، بل إن خيارات الإيرانيين والسوريين لمواجهتها وإفشالها متعددة ومفتوحة. إذ إنّ الممرات الخارجية والمعابر إلى الشمال الذي يسيطر عليه الأكراد مغلقة على طول الخط التركي، و«الحشد الشعبي» العراقي يسيطر، ومن خلفه الإيرانيون، على معبر «فيشخابور» باتجاه الداخل العراقي، أما معابر التعامل مع دمشق فيمكن إغلاقها، إذا ما قررت الذهاب إلى محاصرة النفوذ الكردي ـ الأميركي فيها. ويقول خبير دولي في المنطقة إن خيار المواجهة العسكرية ممكن إذا ما تعرّض الجنود الأميركيون لهجمات: «يقول الأميركيون إنهم سيقصفون قواعد الحرس الثوري في سوريا إذا ما تعرض جنودهم لهجمات».

المصدر: محمد بلوط - الأخبار