بعد «مساكنة» فرضها العدوان على اليمن، قرّر علي عبدالله صالح الانقلاب على شركائه في حركة «أنصار الله». لم تكن محاولة «السياسي الداهية» هي الأولى من نوعها. كان الرجل يتحيّن الفرصة لقلب الطاولة في صنعاء حيث أدار بحنكته ومناوراته العلاقة مع «الحركة»، وفي الوقت نفسه مع «أخصامه» الجدد في الرياض وأبو ظبي.
ومصحوباً بإشارات إيجابية من السعودية والإمارات تؤكد أنها «في انتظار أقوال لا أفعال» و«تحرّك أولاً ثم نحتضنك»، أحرق صالح أوراقه في مغامرة غير محسوبة العواقب بعد نجاح «أنصار الله» في اخماد «تمردّه» والسيطرة ــ حتى الآن ــ على كل المفاصل الأساسية في مناطق تواجد الطرفين. «خطيئة» صالح أنه، أخيراً، رمى عقله وأذنيه في «سلّة واحدة» يديرها ابن أخيه عمار من الإمارات، وابن أخيه الثاني طارق «العراب العسكري لقواته»، و«مفتاح وحامل رسائل» آخر «يعتمده» في أروقة الرياض. هؤلاء نجحوا في دفعه نحو الحراك العسكري والقطع النهائي مع «الحوثيين».
في النتيجة، يعيش اليمن مخاضاً جديداً عنوانه مصير «حزب المؤتمر الشعبي» الذي تتمسّك «الحركة» بالشراكة معه مقابل حصر الخلاف مع آل صالح، في وقت ستعمل قوى العدوان على التفرّد بـ«أنصار الله»، تحت عنوان أنها «ميليشيا» تسيطر وحيدة من دون شريك على العاصمة وقراراتها السياسية والعسكرية
مرّ يوم ثقيل على اليمن أمس. بين تعبيريّ انقلاب وتمرّد، اضطربت العاصمة صنعاء ومناطق أخرى اثر محاولة قوات تابعة للرئيس السابق علي عبدالله صالح «اسقاط» حركة أنصار الله بالضربة القاضية، وتعيين نفسه الحاكم الأوحد للمناطق غير الخاضعة للقوى المتعاونة مع تحالف العدوان السعودي.
مواجهات الطرفين، خرقها حدث نوعي تمثّل في اطلاق صاروخ «كروز» على مفاعل «براكه» النووي في أبو ظبي (سيحتوي هذا الموقع على أربع محطات للطاقة النووية في عام 2020). ويأتي ذلك بعد تصريح السيد عبد الملك الحوثي في أيلول الماضي بأنّ «الإمارات باتت في مرمى صواريخنا»، و«على كل الشركات ألا تنظر للإمارات بلداً آمناً بعد اليوم». الصاروخ الذي تزامن مع «فتنة صنعاء»، أظهر قدرة «أنصار الله» في تطوير الصواريخ وما في جعبتهم من امكانات تقنية، بعيداً عن الربط بين الصواريخ البعيدة المدى و«مخازن الجيش التابعة لصالح المفتوحة أمامهم». وربما جاءت هذه الخطوة لتثبت مرة جديدة، أن عناصر القوة العسكرية المركزية تخضع لسيطرة «أنصار الله» حصراً!
وبالعودة إلى «انقلاب صالح»، فهو كان «متوقّعاً ومنتظراً»، حسب مصادر رفيعة في «أنصار الله»، ولم يأتِ من فراغ أو من «خطة» رُسمت على عجل. الأمر المختلف في أحداث أول من أمس والممتدة حتى ليل أمس، كان التوقيت المفاجئ وردة الفعل «السريعة» لقوات صالح على «اشكال أمني» في «مقرّه الأمني» في جامع الصالح ومحيطه في صنعاء. وبحسب المتابعين والمعلومات المتقاطعة، يريد الرجل التخلّص من عبء العلاقة مع «أنصار الله» لكنه كان واقعاً تحت ضغط امكاناته المحدودة مقابل قوة «الحليف» اللدود.
الرئيس السابق لم يقطع علاقته مع السعودية والإمارات. فهو يتواصل مع الرياض عبر «ضابط ارتباط» موجود خارج البلاد. والأخير أرسل لصالح أكثر من مرّة رسائل تفيد بأن «الرياض مستعدة للمساعدة ولاحتضانك لكنها تريد أفعالاً لا أقوالاً». وظلّ الرجل يناور أمام السعوديين، باعثاً برسائل من قبيل «أنا من يعيق تحقيق الحوثيين مشروعهم... أنا منعتهم من السيطرة على الدولة».
ومن الإمارات، كان عمار، ابن أخيه، يدير العلاقة بينه وبين إدارة محمد بن زايد. كانت الرسائل التي تصله من هناك شبيهة بالرسائل السعودية. لكن صالح ظل يتهرّب من التحرّك في وجه «الحوثيين» رغم وجود الرغبة لديه. كان عمّار يرسل له تباعاً رسائل التطمين والتشجيع الإماراتية والفرنسية أيضاً. ومع مرور الأشهر، واشتداد قبضة «أنصار الله» العسكرية والشعبية، وافشال مجمل مخططات قوى العدوان ميدانياً، كانت «مساحة صالح» تتقلّص.
عادت الرسائل الخليجية للظهور بالعناوين نفسها في الفترة الأخيرة: الأفق السياسي مسدود على صعيد المفاوضات، تحرّك أولاً وندعمك. وفي الموازاة
كان عمار بالتنسيق مع ضباط إماراتيين في جنوب اليمن ينسّق ارسال ضباط محسوبين على عمّه بغرض التدريب والتجهيز وانشاء شبكة تواصل مستمرة.
كانت الأمور تقترب من الانفجار بين «الحليفين» بسبب طريقة إدارة صالح للوزارات والسيطرة على الموارد الشحيحة أصلاً. مصدر عليم بعلاقة الطرفين، يشير إلى أنّ سبب الامتعاض الأساسي «غير المرئي» من «أنصار الله» تجاه صالح هو عِلمها بـ«صلاته المشبوهة مع الخارج» لكن «لا يستطيعون فك التحالف معه لأسباب سياسية بالدرجة الأولى». أما السبب المباشر فهو الموضوع المالي، عبر سيطرة «مجموعة صالح» على موارد قطاع الاتصالات وعوائد ميناء الحديدة الجمركية والمعابر الأخرى «الشرعية وغير الشرعية» من دون ضخّها لصالح النفقات العسكرية والأزمة المالية الضاربة في القطاع العام. فحزب «المؤتمر الشعبي العام» مسيطر على معظم الوزارات التي لديها موارد مالية، ويملك بعد تراكم سنين طويلة من الحكم شبكة علاقات تجارية ضخمة.
المحاولة الأولى
في آب الماضي، كانت «البروفة» الأولى لعلي عبدالله صالح لتحسين موقعه واحكام قبضته على صنعاء، وإن من باب اغراق المدينة بالفوضى. ولذلك استُقدمت مجموعات كبيرة من المسلحين وغيرهم إلى العاصمة بهدف احداث فوضى تحت عنوان مسألة دفع رواتب الموظفين والحالة الاقتصادية والصحية الخانقة.
في تلك المرحلة، عمل صالح على تظهير حاضنته الشعبية بدعوته في الرابع والعشرين من آب لمهرجان في مناسبة بالذكرى الـ35 لتأسيس «حزب المؤتمر».
بدأت الاحتكاكات في الشارع بعد دعوة «أنصار الله» لتظاهرة في اليوم نفسه على مداخل صنعاء، رفضاً للعدوان المستمر ودعماً لجبهات القتال.
خرج صالح قبيل الاحتفال بأيام ليعلن أنه مستعد «لفك التحالف مع الحوثيين في حال استمرت الخلافات معهم»، في حين اتهمته «أنصار الله» بـ«الغدر وبتبني صفقات مشبوهة لإثارة البلبلة وخدمة العدوان». يومها، رحّب وزير الدولة للشؤون الخارجية في الامارات أنور قرقاش بهذا الخلاف، معلقاً على ذلك بأنه «فرصة لكسر حالة الجمود السياسي التي كرسها تعنت الحوثيين».
وعلمت «الأخبار» أن «أنصار الله» كشفوا – حينها ــــ أمام صالح علمهم بالمخطط الحاصل وأنهم سيمنعون الاحتفال وسيتعاملون بيد من حديد مع أي محاولة لاحداث «فتنة». هذا «اللقاء» تمظهر سريعاً بخطاب مغاير لصالح، أعرب فيه أنه «ضد العدوان وسيدفع المقاتلين إلى الجبهات».
انحنى صالح في انتظار مرور العاصفة، لينتقل إلى تأسيس «محاولة» جديدة، ركيزتها ابنيّ أخيه عمار (الموجود في الإمارات) وطارق مسؤول الحرس لديه والقائد العسكري الحقيقي لقواته، بالإضافة لرجل ثالث، هو ضابط الارتباط و«صلة الوصل» مع الرياض. وبذريعة مدّ الجبهات بالمقاتلين، افتتح «الحرس الجمهوري» التابع لصالح معسكرات تدريب، حيث جرى تأهيل عدد من المجندين، لكن بهدف «تشكيل ميليشيا جديدة لصالح لاستخدامها في وقت تسنح الفرصة».
الانقلاب ــــ التمرد
كان العمل الأساسي في بعض هذه المعسكرات يجري بالتنسيق مع ضباط إماراتيين، في مهمة نسّق لها عمار، حيث كان التدريب الأساسي لمجموعات قناصة وقوات خاصة. وترافق ذلك مع ضخ اعلامي وهمسات في أذن صالح للقيام بـ«خطوات تعيد له الحاضنة الشعبية» عبر «الوقوف في وجه الميليشيات» مصحوبة بعشرات العناوين الرنانة بأنه «منقذ اليمن» و«المخلّص الوحيد».
في هذه الأجواء، كانت حركة «أنصار الله» تتحضّر لإقامة مهرجان ضخم في ذكرى المولد النبوي في الثلاثين من الشهر الماضي. وفي إطار تدابيرها الأمنية، طلب عناصر من «اللجنة التحضيرية» الانتشار على أسطح مبان تابعة لصالح مطلّة على ميدان «السبعين» (وهذا ما كان يحصل سابقاً عند أي مهرجان).
هذا المرّة رفضت جماعة صالح، ليقتحم عناصر من الحركة المكان حيث عثروا على عدد ضخم من القناصات وأجهزة الاتصال المختلفة ووثائق.
كان في حسابات «أنصار الله» أن المسألة «ستمرّ بتصعيد في الاعلام ثم تعود التهدئة عبر الوساطات». في هذه الأثناء، التقت قيادات من الحركة مع صالح ليضعوا أمامه معلومات عن انتشار «مريب» لقناصين وتحركات غير مفهومة لمجموعات أخرى. نفى صالح هذه المعلومات ووعد بمتابعة الأمر.
ثم سريعاً، ظهرت اشكالات أمنية في نواح متفرقة من صنعاء، وخرج السفير السعودي لدى اليمن محمد آل جابر ليقول في تغريدة: «مهاجمة جامع الصالح في العاصمة اليمنية الذي يصلي فيه أهل الإيمان وقتل وجرح حراسه هو استمرار لعربدة هذه الميليشيات الإيرانية في اليمن».
في المقابل، دعا زعيم «أنصار الله»، عبد الملك الحوثي، صالح إلى «الكف عن التهوّر اللامسؤول والتصرف الذي لا مبرر ولا داعي له». وأضاف «تفاجئنا اليوم بموجة من الاعتداءات تنفذها شخصيات تابعة للمؤتمر الشعبي العام»، مشيراً إلى أنها «كانت قد بدأت يومي الأربعاء والخميس بالتزامن مع المولد النبوي الشريف».
ووصف أحداث صنعاء بأنها «اختراق نجح فيه الأعداء في التأثير على أصحاب القرار هناك وانزلقوا إلى هذا المنعطف الخطير». لكن صالح، كان قد اختار التحرك مستفيداً من «حادثة جامع الصالح»، وأعلن في مؤتمر صحافي أول من أمس أن قواته سيطرت على صنعاء، لأن «أنصار الله لم يستمعوا للوساطات»... بل «استمروا في عبثهم وغرورهم». واعتبر أن «مجلس النواب هو من سيدير البلاد في الفترة المقبلة»، ودعا دول الخليج إلى «وقف إطلاق النار والجلوس على طاولة الحوار».
الرد الحاسم والسريع
قيادي كبير في «أنصار الله»، لفت في حديث مع «الأخبار»، إلى «أننا نتعامل مع حالة تمرد ونجحنا بذلك سريعاً». وأشار إلى جملة خطوات ساهمت في إعادة الهدوء إلى صنعاء ومحافظات أخرى بعد «النجاح في التعامل مع حراك أمني وعسكري في حجة، وفشل جماعة صالح في تحركهم في إبّ، وكذلك افشال محاولة توسيع إطار الاشتباكات في صنعاء، رغم مساعدة الطيران الحربي السعودية لهم في بعض الجبهات». ولفت إلى أن مجموعة كبيرة من الضباط والمشائخ القبليين المحسوبين على صالح جرى القاء القبض عليهم، مقابل «حراك لمجموعة مهمة من القبائل رفضت الدخول في لعبة الرئيس السابق».
في المحصلة، نجح «أنصار الله» في قلب الطاولة في ليلة واحدة لكن مع ترك المجال مفتوحاً أمام «حزب صالح» من دون اغلاق الباب كاملاً امامه. وفي الوقت نفسه كانت الدائرة المقررة في الحركة تقرر أنّه الأوان لصفعة مدويّة في وجه «كل حراك صالح المشبوه ــــ المكشوف».
ومع ذلك، لا يبدو أن «أنصار الله» في وارد القضاء نهائياً على صالح، وبحسب مصادر من صنعاء، فإن «الأمور ذاهبة باتجاه التهدئة». وقد بادرت قبائل محسوبة على الرئيس السابق الى التواصل مع «أنصار الله» التي تتعامل مع بعض «الجيوب المتمردة في العاصمة».
قيادي كبير في «الحركة» أكد لـ«الأخبار» أنهم أمام «48 ساعة مقررة لتسوية جديدة مع المؤتمر لكن بشروط مختلفة عما سبق، والأكيد أن حزب المؤتمر يجب أن يبقى في إدارة السلطة وصدّ العدوان، وحصرنا الأزمة مع آل صالح».
القيادي يستند إلى مسألة حساسة تُجنّب «الطلاق الكامل» مع أركان «المؤتمر» لأن كوادر أساسية في الحزب لم تكن على علم باتصالات صالح (ودائرته الضيقة) بالسعوديين والاماراتيين، مما «أحرجهم ووضعهم في موقف غير مناسب».
الاصرار على تمتين التحالف السياسي مع «المؤتمر»، قابله ارسال قيادات في الأخير رسائل إلى مسقط طلباً لمبادرة بهدف تصفية الأجواء. في المقابل، ما نشر أمس عن مبادرة صادرة من عُمان للتهدئة في صنعاء نفته مصادر متعددة.
يشتهر «الرئيس الداهية» علي عبدالله صالح بعبارة «حكم اليمن كالرقص على رؤوس الثعابين»، وهو الذي أجاد اللعب على تناقضات البلاد القبلية والمذهبية والدول الطامحة لدور فيه، ليقدّم نفسه في مظهر مفتعل الحرائق والإطفائي في آن. اليوم، يبدو أن الرجل لُدغ من إحدى هذه الأفاعي. فشل، على غير عادته، في التقاط اللحظة السياسية والعسكرية المناسبة، لينتهي به الأمر متخفياً وابن أخيه طارق ــــ عراب الأزمة العسكرية، ولتكون «المواقع السعودية» ناطقة باسمه ليل أمس في بيانات متفرقة تشير إلى أنه «فض الشراكة مع الحوثيين... وكان لا بدّ من إنقاذ البلاد من حماقتهم»، وبأن «ساعة الصفر قادمة على صعيد المعارك في صنعاء»، عبر «طلب الجيش فتح جبهات مأرب ونهم والزحف نحو صنعاء».
يأس على الجبهات
جاء «انقلاب» الرئيس السابق علي عبدالله صالح بعد يأس كامل لقوى العدوان من إحداث أي خرق على جبهة نهم، حيث حشدوا بالتعاون مع القائد العسكري علي محسن الأحمر عدداً كبيراً من الألوية بهدف اقتحام «أرحب» من جهة نهم، لشق طريق نحو صنعاء.
في الوقت ذاته، تقف قوات «أنصار الله» على بعد 70 كلم من عدن، في رسالة إلى «الجنوبيين (القوات المحسوبة على الإمارات) بعدم الدخول في عمليات جبهات الساحل الغربي أو نكمل تقدمنا جنوباً».
أما جبهة تعز، فلا تزال الأفضلية فيها لمصلحة «الحركة»، في ظل «مساكنة» على جبهة مأرب مع «حزب إصلاح» حيث تقتصر المواجهات على مناوشات موقتة. عملياً، استطاع «أنصار الله» إحباط حراك صالح دون تأثّر باقي الجبهات.