بعيداً عن الأضواء، تواصل «الفتنة الجهاديّة» بين «هيئة تحرير الشام» والتنظيم الأم «القاعدة» الاستعار. ويبدو كلٌّ من الطرفين متربّصاً بالآخر ويده على الزناد، مع الحرص على ألا يكون صاحب الطلقة الأولى. وتفرض المعطيات الميدانيّة و«الشرعيّة» واقعاً صعباً بالنسبة إلى «القاعدة» يحول بينها وبين الجنوح السريع نحو التصعيد العسكري، فيما يبدو أن زعيم «الهيئة» في انتظار صفقةٍ ما تتيح له الحصول على ثمن «مضمون» قبل خوضه حرباً جديدة

لا عودة إلى الوراء في قضيّة الخلاف «التنظيمي» بين «جبهة النصرة» والتنظيم الأم «القاعدة». كلّ المعلومات والمؤشرات الواردة من كواليس «الجهاديين» توحي بذلك. وعلى الرّغم من أنّ الأمور لم تنزلق بعد إلى حدّ حدوث صدام عسكري حقيقي بين الطرفين، غيرَ أن الخلاف قد تجذّر إلى حدّ يجعل المبادرات التي نشطت مجدّداً تبدو أشبه بمسكّنات لن تلبثَ أن تفقدَ فعاليتها.

وتبدو الصورة في صفوف «الجهاديين» اليوم أقرب إلى ما كانت عليه عشيّة تفجّر «الحرب الأهليّة الجهاديّة» بين «النصرة» و«داعش» قبل قرابة أربعة أعوام. ولا بأس بالتذكير بأنّ «الحرب» المذكورة لم تندلع فجأة، بل راكمت عوامل تفجّرها شهوراً طويلةً، قبل أن يشتعل الجمر تحت الرماد في شهري تشرين الثاني وكانون الأول 2013، ثم تندلع نيرانها مطلع عام 2014.
وربّما كان التزامن بين «فتنة اليوم» وذكرى «فتنة الأمس» محض صُدفة، غير أنّ الظروف والمعطيات تجعلُ تكرار السيناريو (مع اختلاف كثير من التفاصيل) أمراً وارداً بشدّة. وبات معلوماً أنّ مسألة «فك الارتباط» كانت بمثابة الحجر الأساس الذي بُنيت فوقه خلافات كثيرة، واستُتبعت بمراسلات ومشاورات تلتها مبادرات لاحتواء الموقف، قبل أن تفضي في آخر الأمر إلى مُجاهرة زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري بموقفه التنظيمي و«الشرعي» من ربيب الأمس، أبو محمد الجولاني وجماعته.
وكان الظواهري قد «أفتى» ببطلان «الفك» في كلمته المسجّلة التي بُثّت قبل أسبوع، وأكّد أنّ «بيعة «النصرة» لـ»القاعدة» غير قابلة للنكث». وجاءت الكلمة لتتوّج فشل الطرفين في الوصول إلى حلّ «وديّ»، وبالتزامن مع استكمال الجولاني معظم أركان «الانقلاب على القاعدة» (راجع «الأخبار»، العدد 3336) . ورغم أنّ أسبوعاً كاملاً قد انصرم منذ بثّ الكلمة من دون أن يشهد أحداثاً مفصليّة بارزة للعيان، غير أنّ كثيراً من الأحداث والمُجريات قد تتالت وراء الكواليس «الجهاديّة»، ويوحي معظمها بأنّ التصعيدَ سيكون الفيصلَ في نهاية المطاف. وعلمت «الأخبار» أنّ الجولانيّ قد انخرط منذ اليوم التالي لبثّ الكلمة في سلسلة اجتماعات ومشاورات لم تتوقّف حتى الآن، تتمحور في معظمها حولَ وضع خططٍ لاحتمالات المجابهة العسكريّة مع «القاعديين».

وطلب الجولاني من كل «القادة العسكريين» في مناطق انتشار «هيئة تحرير الشّام» موافاته بتقارير «أمنيّة» مفصّلة تتضمّن بشكل خاص الأعداد الدقيقة لـ«المهاجرين» (المقاتلين غير السوريين) في مناطق نفوذهم، علاوة على «تقييم أمني» لالتزامهم، و«تقدير موقف» للانعكاسات المحتملة لأيّ صدامٍ قد ينفجر مع «القاعديين». كذلك، تؤكّد مصادر «جهاديّة» لـ«الأخبار» أنّ الجولاني قد «أجرى تغييرات تتعلّق بأمنه الشخصي، وقد حذا حذوه عدد من أفراد الدائرة الضيّقة المحيطة به». وتشير المصادر إلى أنّ «الجولاني لم يحسم بعدُ طبيعة الخطوة التالية، وما زال يدرس المعطيات بتأنٍّ». ويبدو الجولاني شخصيّاً ومعظم قادته العسكريين ميّالين إلى الإقدام على خطوات تصعيديّة تمنحهم فرصة «اختيار زمان ومكان المعركة المُحتملة»، فيما يضغط الجناح «الشرعي» لأخذ القرار نحو «الترقّب والاستعداد ووضع الخطط فحسب».
ويرى هؤلاء أنّ «خوض معركة من هذا النوع لن يكون في مصلحة الهيئة (تحرير الشام)، حتى ولو رجحت كفّتها في الجولات العسكرية الأولى».
وينطلق «الجناح الشرعي» في رؤيته من أنّ «المبادءة في التصعيد العسكري ستبدو أقرب للصّيال والبغي»، لا سيّما مع الوزن الاعتباري الاستثنائي للعدو المفترض هذه المرّة (الظواهري وتنظيم القاعدة). ومن المستبعد أن يكون الرأي «الشرعي» هو السبب الأساسي الذي يدفع الجولاني إلى التريّث في بتّ القرار حتى الآن، والأرجح أنّ أسبابه الجوهريّة عائدة إلى «ضوء أخضر» تركي يبدو الحصول عليه ضروريّاً لضمان رجحان الكفة العسكريّة لـ«الهيئة» في معركة مماثلة. ولا يقتصر الأمر على الحاجة إلى دعم «لوجيستي» ضروري، بل يتعدّاه إلى البحث عن «غطاء إقليمي» يمنح الجولاني «صكّ غفران» في مقابل خوضه معركة من هذا النوع.
ويبرز في هذا الإطار رأيٌ جدير بالاهتمام، مفادُه أنّ أنقرة لا تمتلك القدرة منفردةً على دفع الجولاني إلى خوض هذه المعركة، وأنّه لا بدّ من «توافر دور أميركي خفي»، لا سيّما أن الثمن الذي يطمح الجولاني إلى الحصول عليه في مقابل «تصفية القاعديين» يصلُ حدّ التحول إلى «شريك ميداني في الحل السياسي».
أمّا على المقلب الآخر، فيتمسّك معظم أعداء الجولاني «الجهاديين» برأي مشترك مفادُه أنّ الرجل «لم يعد أهلاً للثقة». ويذهب البعض من هؤلاء إلى عدّه «عدوّاً للجهاد الشامي يجب استئصاله درءاً للمفاسد».
وعلمت «الأخبار» أنّ الأمور وصلت حدّ طرح فكرة «تكفير الجولاني والإفتاء بوجوب استتابته» في بعض الدوائر. ويستشعر أعداء الجولاني فرصةً مواتيةً للاقتصاص منه بعد أن خرجت نقمة الظواهري عليه إلى العلن، غيرَ أنّ الموانع التي تحول بين أصحاب هذا الرأي والتأثير المباشر في مسار الأحداث كثيرة، على رأسها أن معظمهم بعيدٌ عن الساحة العسكريّة. وليس من المتوقع أن يجنح الظواهري نحو إصدار أوامر بالتصعيد العسكري ضد «تحرير الشام»، لجملة اعتبارات أيضاً، ومن أهمها الحرص على صورة «الأب لكل الجهاديين»، ما يجعله حريصاً على تحاشي الانجرار نحو «الفتنة». وتجلّت ملامح هذا الحرص على وجه الخصوص في الكلمة التي خصّصها الظواهري لانتقاد «أميره على الشام»، حيث خاطبه بلهجة بدت أقرب إلى التقريع والتأنيب بما يتناسب مع كونه «الابن الضّال».
وليس من المستبعد في ظل الحالة الراهنة أن يُطرح خيار تصفية الجولاني بشكل جدي على طاولة البحث «الشرعي»، الأمر الذي يبدو وارداً في حسابات الأخير ودافعاً لتشديد إجراءاته الأمنيّة.
كذلك، يبرز احتمال العمل على إعلان تنظيم بديلٍ من «النصرة» يكون ممثلاً جديداً لـ«القاعدة في الشام» ويضطلعُ بمهمة «حمل لواء الجهاد الشامي» علناً، ومحاربة «الابن الضال» سرّاً. وكان التلويح بتشكيلٍ مماثلٍ سبباً أساسيّاً في اعتقال عدد من أبرز «القاعديين» في إدلب. ووسط هذه الأجواء المشحونة، برزت قبل أيام مساعٍ لتجديد نشاط «مبادرة الصلح خير» التي سبق أن مُنيت بالفشل في ردم الهوّة بين «النصرة» و«القاعدة». واختار القائمون على المبادرة تجديد مساعيهم في يوم ذكرى عيد المولد النبوي، أملاً في أن تُشكّل المناسبة أرضيّة من «الودّ» بين المتخاصمين. ولا تبدو حظوظ المبادرة كبيرة في النجاح، ولا سيّما أنّها تمسّكت بخطابها السابق الذي حمّل بشكل غير مباشر «هيئة تحرير الشام» المسؤولية عن الخلافات وإفشال المبادرات.

 

المصدر: صهيب عنجريني - الأخبار