مشهد جديد من عدم الانصياع للأوامر الأميركية ظهر أمس في الأمم المتحدة. ورغم أن القرار الخاص بفلسطين المصوّت عليه في الجلسة الطارئة العاشرة من نوعها في تاريخ «الجمعية العامة» غير إلزامي، لكنه عبّر بطريقة أو بأخرى عن الصرخة المكتومة لعدد كبير من الدول تجاه السياسات الأميركية التي بدأت تأخذ في عهد دونالد ترامب شكلاً أكثر إذلالاً. ربما يمثّل قرار أمس شحنة إضافية للفلسطينيين، لكن الرهان الأكبر في إحباط القرار ومفاعيله لا يزال على الجمهور وانتفاضته التي تخوض اليوم جمعة غضبها الثالثة
مع أن القرار الأممي «الرمزي» الذي عبر من أروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة، كان يخص القدس المحتلة والإعلان الأميركي بالاعتراف بها «عاصمة لإسرائيل»، فإنه تحوّل إلى تحدٍّ وقضية كرامة لعدد من الدول، التي عايرتها المندوبة الأميركية بالمساعدات التي تقدمها بلادها لها.
«القوة العظمى» بدت أمس محاطة بحلفاء مثل جزيرة ناورو وجزر مارشال وميكرونيزيا. ظهرت كوحش متغطرس. حتى الحلفاء «الطبيعيون» لم يتقبّلوا صيغة خطاب مندوبتها أو رئيسها في الفترة الأخيرة. مشهدية الأمم المتحدة تعبّر عن مآل «أميركا ــ ترامب» الحالي، وعن ابتعاد أكبر عنها في القضايا الحساسة.
لكن كل ذلك لا يلغي صفقات تحت الطاولة أو ما فوقها مع دول تخجل من التصويت العلني ضد فلسطين وتتآمر عليها في الغرف المغلقة. وقد يكون أوضحها رسالة الملك السعودي لرئيس «السلطة» محمود عباس في الرياض أول من أمس.
وفي جلسة «الأمم»، مواقف عدة تلاها مندوبو دول متعددة أظهرت أن محاولة الابتزاز الأميركي زادتها عزيمة على رفض القرار، كما بيّنت رغم تفاوت الخلفيات والعلاقات بين بلد وآخر أن ثمة إجماعاً على مظلومية الشعب الفلسطيني. وكان من جملة المواقف البارزة كلمات كل من تركيا وإيران وسوريا وفنزويلا، إذ قال ممثل سوريا لدى الأمم المتحدة، منذر منذر، إن بلاده «لن تتراجع عن موقفها الثابت تجاه القدس، ولن تدخر دمشق جهداً من أجل استعادة جميع الأراضي المحتلة»، فيما قال المندوب الإيراني غلام علي خوشرو، إن «القرار الأميركي... أوضح أن واشنطن تسعى إلى الحفاظ على مصالح إسرائيل ولا تحترم حقوق الفلسطينيين». كذلك، أكّد المندوب الفنزويلي أن «القدس جزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية المحتلة... وكل الإجراءات التي تستهدف تغيير طابع القدس باطلة».
على الكفة المقابلة، أكدت المندوبة الأميركية، نيكي هيلي، في كلمة قصيرة أن «الأمم المتحدة معادية لإسرائيل»، وأن «واشنطن ستنقل سفارتها إلى القدس ولن يمنعها من ذلك أي قرار»، مهددة أن هذا التصويت «سيظل خالداً في أذهاننا»، كما لمّحت إلى قطع الدعم المالي عن كل من سيقف ضد القرار الذي رأت أنه يعبر عن إرادة شعبها. وذكّرت هيلي، التي غادرت مباشرة بعد كلمة المندوب الإسرائيلي، أن بلادها «أكبر مساهم في الأمم المتحدة ومؤسساتها، ونحن نقوم بذلك من أجل تقدم قيمنا». وأضافت: «نقدم التعليم والطعام للفقراء، ونبقي على إحساسنا بالمسؤولية وهذه هي الطريقة الأميركية... عندما نكون أسخياء مع الأمم المتحدة، لدينا توقعاتنا المشروعة بأن هذا المجهود يحترم. وعندما نتعرض لهذه الهجمات، فهذا يعني أن الدولة التي تهاجمنا لا تحترمنا».
مع ذلك، ورغم ما قالته هيلي قبل يوم عن «تسجيل أسماء الدول المعترضة» مكررة تهديد الرئيس دونالد ترامب قبل الاجتماع بليلة، تحدّت أكثر من مئة دولة ترامب، أمس، وصوّتت لمصلحة القرار الذي يدعو الولايات المتحدة إلى سحب قرارها الاعتراف بالقدس «عاصمة لإسرائيل». وبينما صوتت تسع دول ضد القرار، وامتنعت 35 عن التصويت، جاءت النتيجة بـ 128 صوتاً إيجابياً لقرار هو في العرف الأممي «غير ملزم». وينص مشروع القرار، الذي قدمته دول عربية وإسلامية وناب عنها تركيا واليمن، على أن «أي قرارات وإجراءات تهدف إلى تغيير طابع مدينة القدس الشريف أو مركزها أو تركيبتها الديموغرافية ليس لها أي أثر قانوني، وأنها لاغية وباطلة امتثالاً لقرارات مجلس الأمن». ويدعو القرار جميع الدول إلى «الامتناع عن إنشاء بعثات دبلوماسية في مدينة القدس، وعدم الاعتراف بأي إجراءات أو تدابير مخالفة لتلك القرارات».
والدول التي صوّتت ضد القرار هي: غواتيمالا وهندوراس وتوغو وميكرونيزيا وناورو وبالاو وجزر مارشال بجانب إسرائيل والولايات المتحدة. ومن أبرز الدول الممتنعة: الأرجنتين وأوستراليا وكندا وكرواتيا وتشيكيا والبوسنة والمجر ولاتفيا والمكسيك والفيليبين ورومانيا ورواندا. أما أوكرانيا التي أيدت مشروع القرار في مجلس الأمن، فكانت بين 21 بلداً لم تحضر جلسة التصويت، إذ سُجل انسحاب لمالي وأفغانستان بعد تهديدات أميركية لهما.
وفي تعليق مباشر على القرار، قال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، إنه يتوقع أن تسحب إدارة ترامب من دون إبطاء «قرارها المؤسف» بشأن القدس، مضيفاً: «يسمون الولايات المتحدة مهد الديموقراطية... هذا المهد يبحث عن شراء الإرادة بالدولار في العالم». كما قال في خطاب آخر قبل التصويت إنه يتوقع أن «يلقن العالم أميركا درساً جيداً».
في السياق، سارع مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى إدانة الحدث، قائلاً إن «إسرائيل ترفض قرار الأمم المتحدة، وتعرب في الوقت نفسه عن ارتياحها للعدد الكبير من البلدان التي لم تصوت له، في أوروبا وأفريقيا وأميركا اللاتينية». وأضاف البيان: «تشكر إسرائيل الرئيس دونالد ترامب على موقفه المطلق». وقبل عقد الجلسة، وصف نتنياهو الأمم المتحدة بأنها «بيت أكاذيب»، قائلاً إن «القدس عاصمتنا وسنواصل البناء هناك وستنتقل السفارات الأجنبية، تتقدمها الولايات المتحدة، إلى القدس. سيحدث هذا».
وخلال الجلسة، هاجم المندوب الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة، داني دانون، الدول الأعضاء، بالقول إن «الجمعية العامة احتاجت إلى 16 عاماً لكي تتراجع عن قرارها المندد بالصهيونية، وليس عندي أدنى شك بأن قرار اليوم سينتهي في مزبلة التاريخ».
في المقابل، قال بيان عن الرئاسة الفلسطينية إن «تمرير قرار القدس يعبر مجدداً عن وقوف المجتمع الدولي الذي لم يمنعه التهديد والابتزاز إلى جانب الحق الفلسطيني»، فيما قال كبير المفاوضين الفلسطينيين، صائب عريقات، إن القرار بشأن القدس «يعني أن إعلان ترامب لاغ وباطل»، مضيفاً أن ما حدث «رد اعتبار كرامة جميع دول العالم ومنظومتها القانونية التي أهانتها الولايات المتحدة وحاولت ترهيبها ورشوتها وابتزازها». كذلك، رأى السفير الفلسطيني لدى الأمم المتحدة رياض منصور، أن التصويت «هزيمة كبيرة» لواشنطن.
أما حركة «الجهاد الإسلامي»، فقالت إن «علينا استثمار القرار الأممي في عزل إسرائيل ومقاطعتها والتصدي للهيمنة الأميركية»، داعية الشعب الفلسطيني إلى «تصعيد انتفاضته واستمرار الغضب في كل مكان». وفي إطار متصل، ثمّنت «حماس» قرار حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» الحاكم في جنوب أفريقيا تخفيض مستوى التمثيل الإسرائيلي لديها من سفارة إلى «مكتب اتصال».
على الصعيد الميداني، لا تزال المواجهات مستمرة لليوم الثامن عشر في الضفة والقدس، مع توقع زيادتها اليوم، وخاصة بعد صلاة الجمعة. وأصيب أمس العشرات بالاختناق والرصاص المطاطي في مدن رام الله والخليل وقلقيلية ونابلس. وذكرت «جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني» أن طواقمها تعاملت مع نحو 30 إصابة في مواجهات مختلفة. كما شن العدو حملة اعتقال وملاحقة لمطلوبين عبر اقتحامات رسمية أو قوات خاصة ومستعربين.
إلى ذلك، ترأس أمس رئيس حكومة «الوفاق الوطني» رامي الحمدالله، في مكتبه في رام الله، اجتماعاً لقادة الأجهزة الأمنية، وذلك لـ«بحث آخر التطورات في مختلف المحافظات، والاطلاع على آخر التقارير الميدانية».