من يتجرأ على سبيلبرغ؟

هذه مسألة حضارية. الفن له حصانة الابداع. يشكل بطاقة عبور إلى العصر، ويواكب الحداثة.

التخلف سمة الشعوب التي تتحصَّن بالممنوعات. ولبنان الفينيقي، مخترع الابجدية، إلى آخره، لا تليق به صيحات المقاطعة.

ولكن المسألة ليست فنية. ليسد ضد الفن. ليست متخلفة. سبيلبرغ فنان عظيم ومرتكب مريع. ليس كل فنان مرهف هو بالضرورة فنان نقي وأخلاقي. اميركا تحاكم فنانين من عمالقة السينما بسبب التحرش الجنسي. لم يقف أحد ليدافع عنهم. فهم مرتكبون ويحاسبون على ارتكابهم. نحن نخلط بين الفن والارتكاب، وسبيلبرغ ليس بريئاً. لنا في ذمته دين من الدم المسفوك، دين من المستوطنات، دين من الاحتلال… فليتوقف اذاً، اصحاب ربطات العنق وأصحاب الصالونات الفخمة وأصحاب الضمائر المنحازة عن الخلط بين الفن والارتكاب. قد يحظى الفيلم على الاوسكار، هذا الرصيد الفني، يرتب على سبيلبرغ تهمة فظيعة، ليس بسبب فيلمه، بل بسبب لا اخلاقيته، وانحيازه إلى القاتل ودعمه مالياً ومعنوياً.

وبصراحة. الذين يدافعون عن سبيلبرغ اصحاب ذاكرة مبتورة عمداً. الأساس، هو موقفهم من اسرائيل. هؤلاء يتسامحون مع اسرائيل. يتعمدون نسيان فلسطين، او، انهم تربوا على عقيدة متينة مفادها: ما لنا ولفلسطين. فلسطين أدرى بشعابها. فلسطين ليست مسألة لبنانية. لذاكرتهم قدرة على الحذف. فلسطين محذوفة بأرضها وشعبها. واقعيون جداً:اسرائيل موجودة، ووجدت لتبقى. اسرائيل حقيقة والعرب وهم. يكيلون لإسرائيل الذرائع ويكدسون لمن يقاومها، ولو بالكلام، الاتهامات. أبرز التهم: “يا حرام… ليك وين بعدهن”. الناس راجعة من الحج. تكاد اسرائيل تصبح شقيقاً عربياً، او يكاد العرب يصيرون عبرانيين.

ليس جهلاً ما يرتكبون. بل عن عمد وعن قصد. هم بالأساس أبناء ثقافة التخلي. يقفون من المقاومة موقف العداء: إذا اعتدت اسرائيل على لبنان، الحق على لبنان، الحق على المقاومة. عدوان 2006 واضح جداً. لبنانيون ضد العدوان ولبنانيون بين بين، ولبنانيون يطالبون بنزع سلاح المقاومة.

لقد بلغ التخلي درجة محو الذاكرة، أو استبدالها. اسرائيل رسمت تاريخها بأسلحتها: ولدت من فوهة البنادق والمدافع، نمت وكبرت بالحراب والاجتياحات. لبنان ذاق من حروبها جولات. دمار وشهداء وقرى وعاصمة. ارتكبت اسرائيل ولا تزال. لم تتعب بعد، شهية القتل والاحتلال هي بحجم صهيونيتها. الدولة البربرية هذه، لا تمت إلا لحضارة اغتيال الشعوب.

ليس سبيلبرغ هو المتهم، بل من يدافع عن ضرورة عدم مقاطعته. علماً، ان أصحاب العقائد “الحضارية” يؤمنون بالسلام، كيفما كان. والمقاطعة وسيلة مقاومة سلمية راقية تمارسها أعرق شعوب الأرض وأكثرها حداثة، ويقوم بها أساتذة ومفكرون وجامعيون ورجال قضايا في العالم. ليسوا من الحثالة، بل من علية الأخلاق والفضائل. اللبنانيون الواقفون بالمرصاد ضد سلاح المقاومة، هم أيضاً ضد مقاطعة إسرائيل. الإعتراف الضمني مكبوت. قليل من الوقت ويفصحون عنه.

في هذه الأمة البائسة من يعتقد بقضايا عادلة ويمارس معتقده: اسرائيل عدو بكل مواصفات العداء. وهم مع المظلومين ضد الظالم. مع المضطهدين ضد الطغاة. مع الأبرياء ضد المرتكبين ومع الإنسان ضد التوحش، مع العدالة ضد اللامساواة. هؤلاء، خميرة الأوطان وهذا كاف لإلقاء التحية عليهم مقرونة بالشكر والاعتراف بالجميل الأخلاقي.

هؤلاء المقاومون بالكلمة والفكر والموقف، وهو أقل الإيمان، هم أبناء قضية من أعدل القضايا، إنسانياً وأخلاقياً وسياسياً. لا تفوتها قضية ولا تتقدم عليها مأساة. وعليه فإسرائيل دولة احتلال واغتصاب وقتل واستيطان. انها النموذج المعاصر للاستعمار بوجهه الإحتلالي. ولذا، فهي في “ذروة” الرجعية وعلى مستوى حضاري يندى له الجبين. هي دولة تمييز عنصري يومي، ليلاً ونهاراً، وتزداد سوءاً ويسامحها العالم. اسرائيل لم ترتدع. انها تبتدع وسائل لتكريس سرقتها واتهام الشعب الفلسطيني بالإرهاب، وهو الشعب المحاصر، براً وبحراً وجواً، من أزمنة بعيدة.

هذا ليس من الذاكرة ابداً. هذا واقع. اسرائيل قاتلة وقاتلة وقاتلة. من يدعم القاتل او يتجاهله او يسايره، ليس قاتلاً بل هو اسوأ منه. سبيلبرغ واحد من هؤلاء. واللبنانيون الطيبون جداً عليهم أن يميزوا جيداً بين الفنان والمرتكب .

ويحدثونك عن شركات عملاقة تقيم علاقات تجارية مع اسرائيل وتدعم كيانها.

ولبنان، بحكم اقتصاده غير المنتج، مضطر أن يتعامل معها. هذا اخراج سخيف.

المقاطعة، سلاح تشهره حيث تستطيع إلى ذلك سبيلاً. إذا كنت عاجزاً أو ليس من مصلحتك أن تقاطع اليوم الشركات العنكبوتية العملاقة، فعلى الاقل، قاطع ما تستطيع أن تطاله يداك. العولمة، لا تبرر التنازل ابداً.

اما لبنان الحكومي ففضيحة تسير عارية بلا خجل. انهم يفضلون سبيلبرغ على لبنان وفلسطين وقضية الحرية. يرددون ببغائياً: هذا شأن حضاري. مقاطعة سبيلبرغ تخلف. تبَّاً. (على الأقل، تهذيباً، مع انهم يستحقون كل ما لدينا من سفاهة لخجل من اشهارها كي لا نوصم بالتخلف). سبيلبرغ حضاري ولابد منه. انها سخرية القدر. حكومة أغرقت شعبها بالزبالة وغارقة بالوسخ والدخان الاسود والفضائح والفساد والعجز والتخلف والانحطاط، وانعدام الاخلاق، تريد أن تعظنا بالحضارة وتمنعنا عن التخلف. إخِس. تريد أن تغسل وسخها بموقف حضاري. فتباً وتباً.

هذه سلطة يُقال فيها هجاء يقصر فيه جرير والفرزدق. غدا ينتهي العرض. غداً تبدو السلطة على حقيقتها، شمطاء تحاضر بالعفاف.

تحية لمن يُشهر سلاح المقاطعة لإسرائيل. تحية لسماح ادريس، الذي وقف عنيداً ووحيداً في البداية. وها هو يحصد اليوم، تياراً من مؤيدي المقاطعة. فإلى غدٍ مختلف عن حاضر متخلف.

المصدر: نصري الصايغ