ربما يشعر القارئ بالخوف مع هذا الكتاب وهو يقوم بقراءة 750 صفحة من تاريخ القتل الذي ارتكبته أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وفي حين أن الكثير من الحقائق قد وثقت فإن بعض الأمور الأخرى عليها خلاف ولكن الأزمات الأخلاقية مهولة.

إن الكاتب «رونين بيرغمان» من خلال اطلاعه على القضايا التي أثارها في كتاب (انهض واقتل أولا)، يعرف أكثر مما كان من المفترض أن يعرف، وفي عام 2011، اتهمه رئيس أركان قوات الدفاع الإسرائيلية بالتجسس؛ وقال مؤرخ يتيع لجهاز الموساد لـ«بيرغمان إنه يرفض التحدث معه حتى لو تحدث معه الجميع وقال له «أنا أحتقر كل من أعطاك رقم هاتفي، تماما كما أحتقرك».

ومع ذلك، تمكن «بيرغمان»، وهو صحفي مقيم في (إسرائيل)، من إجراء ألف مقابلة على طول سلسلة القيادة، من القادة السياسيين إلى عناصر الاستخبارات.

وبالنسبة لموضوعه المثير للجدل والدموي فإنه يقود إلى بعض الأرقام والحقائق الفظيعة: «منذ الحرب العالمية الثانية، اغتالت (إسرائيل) أكثر من أي بلد آخر في العالم الغربي».

ويعد كتاب «بيرغمان»عملا استثنائيا، وهو كتاب إنساني ففي حين لم يتخل «بيرغمان عن التاريخ والمسائل المتعلقة بالتحقيقات، فإنه لم يفوت النظر في المسائل الأخلاقية التي تنشأ عندما تقرر الدولة مثلا التخلص من أشخاص عديمي الجنسية في عمليات إبادة جماعية.

وبطبيعة الحال، تظل هذه القرارات سرية و(إسرائيل) لا تؤكد ولا تنفي وجود برنامج الاغتيال الهادف الذي وثقه بيرغمان بحزم.

واقتبس عنوان الكتاب من التلمود: «إذا جاء شخص ما لقتلك، انهض واقتله أولا». هذا الاغتيال يعرف بأنه دفاع عن النفس. ولكن كما يظهر «بيرغمان»، فالدوافع ليست دائما واضحة؛ الانتقام، فحتى قبل إنشاء دولة (إسرائيل) عام 1948، كان لدى الحركات الصهيونية السرية حملة من التفجيرات وعمليات القتل ضد البريطانيين الذين كانوا يقومون بتقييد هجرة اليهود الذين كانوا يحاولون الفرار من أوروبا، وقال أحد منفذي عملية القتل لبيرغمان، كيف أنه أطلق النار على ضابط بريطاني في أحد شوارع القدس عام 1944. «لم أكن أشعر بأي شيء، ولا حتى بالقليل من الشعور بالذنب. كنا نعتقد أنه كلما وصلت هذه التوابيت إلى لندن، كلما اقترب يوم الحرية».

وفي وقت لاحق أصبح العديد من الرجال الذين قاتلوا في إطار المنظمات الصهيونية هم شخصيات المؤسسة في (إسرائيل)، بما في ذلك «إسحاق شامير» و«مناحم بيغن»، فقد استوردوا أساليب حرب العصابات في جهاز الأمن الذي ساعدوا على إنشائه، وقدمت الاغتيالات طريقة تكتيكية لبلد صغير مع دفاعات بدائية. وقال «بيرغمان» إن المحرقة، عززت الشعور بأن البلاد وشعبها سيتعرضون دائما لخطر الإبادة.

احتفظ «مئير داجان»، الذي كان يقود الموساد في الفترة من 2002 إلى 2011، في مكتبه بصورة لرجل ملتحي في شال الصلاة، راكعا أمام القوات الألمانية. وحينما كان نشطاء الموساد على وشك القيام بمهمة حساسة بشكل خاص، كان يدعوهم إلى مكتبه ويوضح لهم أن هذه الصورة كانت لجده، قبل وقت قصير من قتل النازيين له. وقال «داجان» لـ«بيرغمان» إن معظم اليهود في المحرقة ماتوا دون قتال. وأضاف «يجب أن لا نصل أبدا إلى هذا الوضع، دون القدرة على القتال من أجل حياتنا».

ويعبر عدد من مصادر «بيرغمان» عن نفس هذا الشعور، وقال «بريمو ليفي» إنه من الواضح جدا أن هذا الخط من التفكير الذي ذهب إليه الآخرون إلى حد أن اقتراح أن الجبن أبقى اليهود بعيدين عن الثورة هو أمر سخيف ومع ذلك، اعترف ليفي أن هذه الفرضية قدمت شعورا باليأس.

إن الأنظمة المعادية المحيطة بـ(إسرائيل) قد أثارت هذه المخاوف باستمرار؛ فبعد ساعات من إعلان (إسرائيل) استقلالها عام 1948، هاجمت سبعة جيوش من الدول المجاورة، وشجعوا على الإرهاب ضد (إسرائيل) ومواطنيها منذ ذلك الحين ويبدو أن التدابير لا تكون أقل تطرفا عندما تكون المسألة مسألة بقاء.

على الرغم من هذا السياق التاريخي لكتاب (انهض واقتل أولا)، والذي ظهرت أجزاء منه في مجلة نيويورك تايمز، أبعد ما تكون عن الاعتذار فإن «بيرغمان» أشار إلى أن قدرة (إسرائيل) على الاغتيالات السرية دفعت البلاد إلى الاعتماد عليها خطأ، حيث إن اعتماد القتل لحل بعض المخاوف الاستراتيجية والسياسية المعقدة كان خطأ، ويرى «بيرغما ن»أن اغتيال بعض المقاتلين ومن بينهم خليل الوزير المعروف باسم أبو جهاد - في عام 1988 – شجع على المزيد من المطالب الراديكالية، ودفع إلى حل مستدام مع الفلسطينيين كان بعيدا عن متناولهم، ويقول «بيرغمان»: «بما أن إسرائيل سوف تتعلم مرارا وتكرارا من هذا، فإنه من الصعب جدا التنبؤ بكيفية سير التاريخ بعد إطلاق النار على شخص ما في الرأس».

ومن الصعب أيضا التنبؤ بكيفية تطور العملية. ويذكر «بيرغمان» أن عددا من المهمات قد أحدثت خطأ شديدا، بما في ذلك حادث مع كلب مفخخ هرب (اكتشفه حزب الله لاحقا)، إضافة لمخطط تنويم السجين الفلسطيني ليصبح قاتلا تابعا للموساد. (وبعد أن كان مسلحا بمسدس وأرسل في مهمته، تم نقل الرجل فورا إلى الشرطة الفلسطينية وقال إن الإسرائيليين حاولوا غسل دماغه).

وهناك بطاقة لشخصية أخرى هي «أرييل شارون» المحارب، الذي يستمر في الظهور في هذا الكتاب أولا كقائد للجيش، ثم كوزير للدفاع، وفي نهاية المطاف كرئيس للوزراء، ويصف «بيرغمان شارون» بأنه مهووس، وهوسه بقتل «ياسر عرفات»، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية. وفي مطاردة «عرفات»، أسقط «شارون» تقريبا طائرة مما أدى إلى إصابة 30 طفلا فلسطينيا عن طريق الخطأ؛ حتى أنه أمر باسقاط طائرة تجارية اذا كان «عرفات» على متنها وكما يذكر بيرغمان» بصراحة، فإن هذا قد يصل إلى جريمة حرب متعمدة.

لكن الأمر كان أكثر من مجرد رجل واحد، فاليوم هناك مشكلة مؤسسية أكبر يتتبعها «بيرغمان»، وهو ما يتعلق بالجهاز الأمني الإسرائيلي، بالإضافة إلى ما يجعلها أكثر دهاء وهو التطور من الناحية التكنولوجية، فبدلا من أخذ شهور أو سنوات لتخطيط عملية قتل واحدة، أصبح الموساد ونظيره المحلي، الشين بيت، قادرين الآن على تخطيط أربعة أو خمسة اعتراضات يوميا.

«عندما تعتاد على القتل فإن التخلص من الحياة البشرية تصبح شيئا عاديا، وسهلة، فأنت تقضي ربع ساعة، 20 دقيقة، لإتمام عملية القتل» وهذا الاقتباس من «أيمي أيالون»، الذي رأس الشين بيت ( جهاز الأمن الداخلي ) في أواخر التسعينات والذي ساهم في نقل المنظمة إلى العصر الرقمي.

والمفارقة في لغة «أيالون» التحريضية أنها صدى لخط حنا أرندت حول النازيين، إن هذا الكتاب مليء باللحظات الصادمة، والاضطرابات المدهشة في سرد كامل لعدد من التقلبات المصيرية والعواقب غير المقصودة، وكما يقول أحد قادة البحرية، استمع، فالتاريخ يلعب ألعاب غريبة.

المصدر: نيويورك تايمز