يشكك أطباء نفسيون في لبنان في صحة دراسات أجريت في هذا البلد من ضمن دراسات عالمية أظهرت أن نسبة محاولات الانتحار في لبنان لا تتجاوز إثنين في المئة من إجمالي عدد السكان، وهي نسبة تضع لبنان في مراتب منخفضة وبعيدة من المعدل العالمي. ويعتقد أطباء شاركوا في ندوة عن الانتحار نظمها «مركز إدراك» بالتعاون مع دائرة الطب النفسي في مستشفى القديس جاورجيوس الجامعي وكليّة الطب في جامعة البلمند، أن النسبة قد تكون أكثر بكثير في ضوء المسببات المتوافرة في لبنان للإقدام على محاولة الانتحار، وما يحجب التأكد منها نظرة المجتمع والأديان إلى المقدم على الانتحار وغياب كلمة «منتحر» عن وثيقة الوفاة للذين «نجحت» محاولاتهم وتوفوا، واكتفي بذكر سبب الوفاة على سبيل المثال «توقف القلب».

وقال رئيس «إدراك» الدكتور ايلي كرم لـ «الحياة»: «الدافع وراء الندوة أن مؤشرات كثيرة تقول إن نسبة الانتحار يجب أن تكون مرتفعة في لبنان، فمسببات الإقدام على الانتحار تتدرج من الاكتئاب والقلق والعامل الوراثي وحوادث الصدمة في الطفولة، وكيفية تربية الإنسان لتقبل الحوادث الصادمة وطبع الإنسان، وهذه متوافرة في لبنان ونتعجب لماذا لا تظهر في السجلات، هل لأن اللبناني قادر على المضي في الحياة على رغم كل المصائب أو هناك خطأ ما في مكان ما يخفي الانتحار؟».

ولا يخفي كرم صعوبة توثيق الانتحار. فالمنتحر قد لا يظهر أنه انتحر فالذي يكتشف الانتحار قد يغطيه والذي يكتب التقرير قد لا يذكر ذلك، ويجب ألا ننسى أن المنتحر لا تعترف به شركات التأمين».

ولمعرفة «أين نحن» من هذا الواقع، ناقش عدد من المتخصّصين، من أطباء نفسيين ومحاضرين جامعيين ورجال دين وقضاة ومسؤولين في هيئات أهلية وجهات حكومية معنية ومنظمّة الصحّة العالميّة، وعلى مدى ساعات وضع الانتحار في لبنان، لجهة نسبته وسبل توثيقه ووسائل الوقاية منه.

ووصف كرم الإقدام على الانتحار أنه «فاجعة كبيرة على المنتحر وعلى عائلته ومحيطه، أنه انتحار مكتمل، وفي لبنان يفوق عدد المنتحرين الذكور عدد الإناث (4 ذكور مقابل 2 انثيين) وكنا أجرينا دراسة في العام 2008 ووجدنا ارتفاعاً في التفكير بمحاولة انتحار، وتبين لنا أن الإجيال الفتية تحاول الانتحار أكثر من البالغين».

وأشار كرم إلى أن «في مراجعة للانتحار في الدول العربية وجدنا أن هناك مشكلة في توثيق الانتحار أو حتى محاولة الانتحار».

143 منتحراً في العام 2017

وشرح الطبيب المتخصص في أمراض الشيخوخة جورج كرم «عوامل خطر من شأنها أن تؤدّي إلى السلوك الانتحاري، والدراسات التي أجريناها أظهرت تفاعُل السلوك الانتحاري مع طبع الإنسان (المزاج)، وارتباطه الواضح بعدد من عوامل الخطر، كالأمراض النفسية لدى الأهل، ومصاعب الطفولة، وتبعات الحرب أو الأحداث التي تشكّل صدمة، إضافة إلى تأثره بالاضطرابات الذهانيّة». وشدّد على أن «الترابط القويّ بين الاضطرابات النفسيّة والسلوك الانتحاري يَفترض، التركيز على جهود الوقاية من الانتحار، وعلى رصد الاضطرابات النفسيّة ومعالجتها».

وتوقف عند عامل التنمر الذي يقع الأطفال ضحيته «وهم معرضون إلى حد 9 مرات أكثر من غيرهم للتفكير بالانتحار كما أن الراشدين الذين يتعرضون للتنمر في العمل معرضون إلى للتفكير بالانتحار».

وكشفت مِيا عطوي، من مؤسسي جمعية Embrace أن «إحصائيات قوى الأمن الداخلي تشير إلى حالة انتحار كل يومين ونصف يوم في لبنان، ومحاولة انتحار كل ستّ ساعات، وعام 2014 شهدت معدّلات الانتحار ارتفاعاً بلغ 30 في المئة مقارنة بالعام 2013، وشهد العام 2017 نسبة مماثلة بحسب دراسة لم تنشر بعد ترتكز على إحصائيات قوى الأمن». وأوردت رقم 143 منتحراً في العام 2017 .

وكانت جمعية Embrace أطلقت «خطاً ساخناً وطنياً للوقاية من الانتحار»، في أيلول 2017 بالشراكة مع وزارة الصحة، انطلاقاً من المثل الشعبي أن «الحكي يطيل العمر». وقالت إن هذا الخط «الأول من نوعه في لبنان والعالم العربي وخطوة رئيسة نحو وضع إطار وطني للوقاية من حالات الانتحار ورصدها وبناء النظام الوطني للصحة النفسية. وتلقى الخط حتى اليوم أكثر من 80 اتصالاً هاتفياً».

وتشاركت غادة أبو مراد، من البرنامج الوطني للصحة النفسية في وزارة الصحة، وإدوينا الزغبي من منظمّة الصحّة العالميّة، الحديث عن «إنشاء سجل وطني للصحّة النفسيّة في العام 2016، ويتضمّن مكوّناً حول الانتحار، وأظهرت المعلومات التي جُمعت من تسعة أطباء نفسيّين أن ما مجموعه 779 شخصاً عانوا من اضطرابات نفسية بين أيلول 2016 وشباط 2017. ومن بين هذه العيّنة، 116 أقدموا على محاولة الانتحار (15 في المئة) و61 في المئة من هؤلاء هم نساء». وأشارتا إلى أن «نحو 10 في المئة من الذين حاولوا الانتحار لم يتخطوا سن الـ18 سنة في حين أن 58 في المئة تراوحت أعمارهم بين 18 و34 سنة. أما بالنسبة الى التشخيص فإنّ 44 في المئة منهم كانوا يعانون من الكآبة، و20 في المئة كانت لديهم حالة فصام، و15 في المئة يعانون من اضطرابات القلق».

وتابعتا أن «الأكثريّة (93 في المئة) زوّدوا بأدوية للصحة النفسيّة، و44 في المئة أحيلوا على العلاج، و16 في المئة أحيلوا على المستشفيات».

ولاحظت هيلدا حرب من وزارة الصحّة أن «لبنان كان، حتى العام 2017، يفتقر إلى المعلومات الكاملة والموثوق بها عن أسباب الوفاة. وجرت محاولات لتحسين نموذج وثيقة الوفاة ومكننة قاعدة المعلومات». وقالت: «ندرك أن ثمة أسباباً اجتماعية قد تحول دون تسجيل بعض أسباب الوفاة بدقّة في وثيقة الوفاة، ووزارة الصحّة اعتمدت منذ العام 2011 نظام إبلاغ عن أسباب الوفاة في المستشفيات، بدءاً آنذاك بوفيات الأمهات وحديثي الولادة، وتم تطويره في العام 2017 حتى اصبح يشمل كل الوفيات. ويرتكز هذا النظام إلى بيانات المستشفيات من دون تحديد هويات المتوفين. وباتت لدينا معلومات عام 2017 عن 18 ألف متوفٍ ومن ضمنها الانتحار».

وأجمع المتحاورون على أن ثمة ثغرة تتعلق بمعرفة من ينتحر أكثر أو يحاول الانتحار أكثر، هل هو اللبناني أو اللاجئ السوري أو اللاجئ الفلسطيني أو الأجانب المقيمون؟ وتحدث أطباء شرعيون عن عدم توثيق الانتحار في وثيقة الوفاة خشية عدم الصلاة عليه أو بسبب الوصمة التي تلاحق أهل المنتحر». وسأل البعض عن الموقف من القتل الرحيم».

«نام ما قام»

وتحدثت رئيسة قسم الأوبئة والصحة السكانية في كلية الصحة العامة في الجامعة الأميركية في بيروت عبلة سباعي عن فوضى في حفظ وثائق الوفاة، لافتة إلى أن نص الوثيقة لم يتغير منذ العام 1951. وأعطت أمثلة على أسباب الوفاة التي تُذكَر في وثيقة الوفاة، ومنها: «وفاة طبيعيّة» و«شيخوخة»، «نام ما قام»، و«اشتراكات»، و«بسبب الحرب». وأشارت إلى أن ثمة جهداً على المستوى الوطني لتحسين وثيقة الوفاة.

وتحدّث رئيس محكمة الاستئناف في بيروت القاضي جون القزّي عن عدم تقبل الانتحار بكل لغات الأرض، وقال: «القانون اللبناني يعاقب من حمل إنساناً بأي وسيلة كانت على الانتحار أو ساعده على قتل نفسه». وشدد على أن «ليس باستطاعة أي طبيب أن يجزم بأن وفاة شخص ما هي انتحار، إنّما التحقيق هو من يؤكّد ذلك، فثمّة جرائم تُغطّى بشكل انتحار».

وأضاف: «وفق إحصائيّة رسميّة لقوى الأمن الداخلي في العام 2018 (من 1-2-18 وحتى 15-2-2018)، سُجِّلت في لبنان 25 حالة وُصّفت بالانتحار منها 14 للبنانيّين و11 لأجانب، عاملات أجنبيات، ولكن لا يمكن الجزم بها، منها إطلاق نار وشنق وسقوط من طبقة عليا وسموم. وهذا التوثيق ليس مطلقاً لأنّ ثمّة حالات انتحار أو محاولة انتحار تبقى قيد الكتمان».

وأشار إلى وجود جرائم أُلبست لبوس الانتحار في حين أن هناك منتحرين لا يمكن الجزم في ما حصل معهم، هل هو انتحار أو حادث، وهناك أناس يموتون أثناء تنظيف مسدس، فهل هذا انتحار؟ أبداً».

وقال الطبيب الشرعي في وزارة العدل بلال صبلوح أن «الطبيب الشرعي لا يذكر كلمة انتحار في تقريره إنّما يحدّد ما كشفه من علامات، ويقول إنّها تتوافق مع ذاتيّة إحداث الإصابة». وأشار إلى «لا وجود للطب الشرعي النفسي في لبنان».

وتحدثت منسّقة البرنامج الوطني لتكنولوجيا المعلومات لينا عويدات، عن شهادات الوفاة، وقالت إن «تحليلاً مفصّلاً أجري لـ65 ألف وثيقة وفاة مفصّلة تعود إلى السنوات 1997– 1999 ولنموذج من تحليل لوثائق الوفاة في العامين 2015 و2016. ولاحظنا وجود مشاكل تتعلق بصحّة البيانات ووضوحها وثقافة الموثّقين في شأن الوفاة عموماً والانتحار خصوصاً». ولفتت إلى «أن خارج المستشفيات لا تتضمن شهادة الوفاة أي معلومة». وأشارت لافتقار لبنان إلى نظام يجمع داتا المعلومات في مكان واحد.

وتحولت الندوة إلى حلقة نقاش أدارها القاضي رالف رياشي، وقال المدير العام لوزارة الصحّة وليد عمّار إن «الوزارة تهتم بالانتحار من أجل الوقاية وليس للتعداد على رغم أهميّته». ورأى المدير العام للأحوال الشخصيّة في وزارة الداخليّة إلياس خوري أن «وثيقة الوفاة يملؤها حالياً ثلاثة أطراف لتصل إلى دوائر الأحوال الشخصيّة: المختار اللاعب الأساسي ولديه 15 خانة، والطبيب له ستّ خانات، ومأمور النفوس».

ورفضت المديرة العامة لوزارة العدل القاضية ميسم نويري أن تتضمن وثيقة الوفاة اي توصيف للانتحار، وأيد القاضي رياشي الامر ووافق على تضمينها في «مستندات غير علنيّة حرصاً على الحياة الشخصيّة للفرد». وركز قاضي شرع بيروت الشيخ محمد نقري على «تحريم النصوص القرآنية أي عمل يؤدي إلى الموت»، فيما رأى ممثل مطرانية بيروت للروم الأرثوذكس الأب جورج ديماس أن على رغم توصية المسيحية بـ «ألا تقتل»، فإن ثمة توصيات رعائيّة تدعو إلى «التعاطي برحمة مع المنتحر وأقربائه والصلاة عليه، لأن العلم يؤكد أن المنتحر فقد إدراكه».

المصدر: الحياة