لا يتحدث جميع الناس بالطلاقة نفسها. فالبعض فصيح وجريء، والبعض الآخر خجول ويُشير إلى ما يحتاجه بالمختصر. آخرون يعانون من التأتأة، فيجهدون للتعبير عما يجول في خاطرهم، سواء أكان في الأمر سؤال أم جواب، استيضاح أم طلب، أو حتى إلقاء تحية.
وفيما يشعر هؤلاء بالضغط النفسي المضاعف نتيجة العيب في النطق ومسبباته، فإن المحيط يتفاعل غالباً بسلبية مع المتلعثم، تارةً بالسخرية وطوراً بالمقاطعة، وأحياناً بالتأنيب. ورغم فداحة هذا التصرّف الذي يزيد من وطأة المشكلة ولا يحلّها، فإن الأسوأ حصل في القرون الوسطى حين رُبطت التأتأة بالأرواح الشريرة، واستخدُم الفلفل الحار وكي اللسان أو قطع عضلاته للتخلص من التفوّه اللا إرادي ببعض المقاطع الصوتية غير المفهومة، أو التلعثم في الكلام، ولم يأتِ بالطبع بأي نتيجة.
تشويش
تُبيّن الإحصاءات أن 1% من سكان كل دولة يعانون من مشكلة "التأتأة"، وأن 80% من هؤلاء هم من الرجال. وفيما تُربط التأتأة بالظروف النفسية، لا سيما الضغوط التي رافقت مرحلة الطفولة، والتوتر الذي يشعر به الشخص بنتيجة ضعف الثقة بالنفس، فإن هذه الظاهرة لا تزال تحت مجهر البحث والدراسة، فوجد علماء أن أسباب التأتأة وراثية، والدليل على ذلك التأتأة على مستوى أجيال ثلاثة: الجد، الأب والحفيد.
عضوياً، ومن خلال الصور المغناطيسية لأشخاص يعانون من التأتأة والاضطرابات في الكلام، تحدّث خبراء عن تشوش في المادة الرمادية في الجانب الأيسر من الدماغ، في القسم المسؤول عن النطق، بما يؤثر على العديد من العضلات الضرورية للتكلم والنطق. لكن الغناء مسألة أخرى، فالمنطقة المسؤولة عن الغناء في الدماغ تقع في الجانب الأيمن، وبالتالي فإن من يتأتئ بإمكانه الغناء وبطلاقة.
العلاج ممكن
يوضح مارتن زومر، وهو كادر طبي أخصائي في الأمراض العصبية في المستشفى الجامعي لمدينة غوتنغن الألمانية، أن "التأتأة تبدأ في سنوات الطفولة الأولى، أي ما بين الثالثة والسادسة"، لافتاً إلى أن "من بين هؤلاء الأطفال يُشفى ما بين 60 إلى 80 في المائة من تلقاء أنفسهم، فيما يضطر البعض الآخر إلى تعلم الكلام بطريقة عادية".
كما أظهرت دراسة أجريت على الأطفال الذين يعانون من التأتأة في نيوزيلندا، ونشرت نتائجها في الدورية الطبية البريطانية "بريتيش ميديكال جورنال"، أن "77 في المئة ممن عولجوا قبل التحاقهم بالمدرسة بطريقة عرفت باسم "برنامج ليدكوم" أظهروا نقصاً في التأتأة، ونجح أكثر من نصف من شملتهم الدراسة من الأطفال (52%) في تحقيق ما وصفه الباحثون "الحد الأدنى" من التأتأة أو أقل من واحد بالمئة".
وتتعدد التقنيات المستخدمة للتخلص من مشكلة التأتأة. وهي تبدأ من البيت والمدرسة، وتمرّ بعيادة الطبيب النفسي، وتصل إلى ورش العمل الجماعية والتدريب لدى أخضائيي تقويم النطق. حتى أن البعض يعتمد على الأجهزة الإلكترونية أو الأدوية، رغم أن الأخيرة لم تثبت جدواها حتى الساعة.
ابني يتلعثم
تقبّل الطفل ضروري، لأن ثقته بنفسه تُبنى على مدى تقبل المحيطين له، على ألا يكون التقبل مرادفاً للإهمال. وبموازاة استشارة أهل الإختصاص بكيفية معالجة التأتأة لدى الطفل، على الأهل مساعدته في تجاوز هذه الإضطرابات، أو أقله في عدم تحولها من نتيجة إلى سبب لمزيد من الضغوط والتوتر والتدهور في تقييم الذات.
ومن بين هذه الإرشادات: الاستماع بانتباه للطفل، والحفاظ على التواصل البصري الطبيعي عند محادثته، وانتظار انهائه لكلامه وعدم مقاطعته، وتصحيح كلامه بطريقة لطيفة وإيجابية، وتحويل المنزل إلى فسحة للهدوء والإسترخاء لتجنب اي توتر او ضغط يحيط به. وتشير المؤسسة الاميركية للتأتأة في هذا الإطار إلى أن "التأتأة تزول بإزالة الخوف منها لا ببذل جهد اكبر لتجنبها".
وبالنظر إلى عدد المتأتئين من المبدعين، ربما يُفضل أن يقوم الأهل بتنمية مواهب أبنائهم الذين يعانون من هذه المشكلة. فالتأتأة لا تعني الفشل، وليست دليل غباء، فكل من الكاتب البريطاني جورج برنارد شو، والممثل بروس ويليس، والعالم إسحاق نيوتن، والفيلسوف اليوناني أرسطو، ما كانوا طليقين في كلامهم، وعانوا من التلعثم والتأتأة.