ازمة جديدة على وشك الانفجار في مصرف لبنان. السبب، هذه المرّة، ليس سياسات الفائدة السخية والهندسات المالية المكلفة، بل سببها الرضوخ التام والأعمى للوصاية الأميركية على الدولة اللبنانية، بذريعة التزام العقوبات على سوريا وإيران وحزب الله

تتواصل الضغوط الأميركية على لبنان بأشكال عدة، بينها العقوبات المالية. وإذا لم يكن الأمر جديداً، بحكم ما تتخذه واشنطن من إجراءات خلال السنوات الماضية، إلا أن المناقشات الداخلية حول طريقة التصرف، كانت تقوم على قاعدة رفض أي إجراء لا يستند إلى معطيات مباشرة وقانونية. وهو ما جعل الهامش متاحاً أمام الجهات الرسمية اللبنانية لرفض عدد غير قليل من الطلبات الأميركية.

لكن الذي يجري اليوم يوحي بأن في السلطة النقدية، من يريد تجاوز عدم وجود توافق سياسي عبر الإقدام على خطوات أُحادية تتخذ طابعاً تقنياً، الأمر الذي يدفع إلى مواجهة داخلية، وهو ما ينعكس عملياً في مناقشة الهيئات المعنية، التي تعكس في جانب منها وجهات نظر تتجاوز الطابع التقني.
يوم الثلاثاء الماضي (27 آذار)، عقدت لجنة الرقابة على المصارف اجتماعها الدوري. فوجئ الحاضرون ببند طرحه رئيس اللجنة، سمير حمود، من خارج جدول الأعمال، يطلب فيه التوقيع على تقريرين، واحد يخصّ «بنك التمويل»، والآخر يخص «البنك اللبناني السوري التجاري»، وذلك بهدف إحالة هذين المصرفين على الهيئة المصرفية العليا، لمحاكمتهما واتخاذ العقوبات بحقهما. شرح حمود للأعضاء الحاضرين أن هذين التقريرين أُعدّا بطلب من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الأول، بهدف إجراء تغييرات إدارية، تشمل تعيين مجلس الإدارة والإدارة العامة وزيادة رأس المال، والثاني، بهدف تعيين مراقب على أعمال البنك استجابة للضغوط الأميركية. أثار هذا البند اعتراضات جدّية داخل اللجنة، ولا سيما أن التقرير المتعلّق بـ«البنك اللبناني السوري التجاري» لا يستند إلى أي مخالفات ينص عليها القانون، كذلك لا يستند إلى أي مهمة من مهمات لجنة الرقابة على المصارف، ما عدا أنه يأتي تلبية لطلب أجنبي غير مبرَّر أو معلَّل.
في الحصيلة، وقّع حمود على التقريرين المطلوبين مع عضوي اللجنة سامي عازار ومنير اليان، فيما رفض أحمد صفا التوقيع، وكان جوزف سركيس متغيباً عن هذا الاجتماع. وبالتالي، حاز التقريران ثلاثة تواقيع من أصل 5 أعضاء تتشكّل منهم اللجنة، ويُفترض أن يكونا قد سلكا طريقهما إلى سلامة، ومنه إلى الهيئة المصرفية العليا، بصفته رئيساً لها.

تلقّى سلامة رسالة عبر حاكم المصرف المركزي السوري، مفادها أن ردّ القيادة السورية سيكون مؤلماً


وبحسب مصادر معنية، فإن الملف بشقيه يُعَدّ في حالة جمود، وإن الأمر متروك لـ«تداول سياسي» يجري مع سلامة وحمود من جهة، ومع القيادات السياسية في البلاد من جهة ثانية. وقد زار حمود الرؤساء الثلاثة للتداول أيضاً، وليس هناك أي قرار نهائي بعد. مع العلم أن التوصيات التي سمعها حمود وسلامة تقول بإمكانية معالجة أي ثُغَر قانونية هي أصلاً محل نقاش مع جميع المصارف.

مهمات الهيئة المصرفية العليا
بالاستناد إلى القانون 28/67 الصادر في عام 1967، أُنشئت لدى مصرف لبنان هيئة تُسمى «الهيئة المصرفية العليا»، وهي ذات طابع قضائي، يرأسها حاكم مصرف لبنان، وتضم نائبه محمد بعاصيري، والمدير العام لوزارة المال، ألان بيفاني، ورئيس المؤسسة الوطنية لضمان الودائع، خاطر أبي حبيب، والنائب العام المالي، القاضي علي إبراهيم، ورئيس لجنة الرقابة على المصارف، سمير حمود. وتقرر هذه الهيئة العقوبات المنصوص عليها في المادة 208 من قانون النقد والتسليف. علماً أن قراراتها لا تقبل أي طريق من طرق المراجعة الإدارية أو القضائية.
وتنص المادة 208 (معدلة وفقاً للقانون 28/67 تاريخ 9/5/1967) على أنواع المخالفات التي تنظر فيها الهيئة، وليس من ضمنها مخالفة قرارات دولة أجنبية، مثل العقوبات الأميركية، إذ تعدد هذه المادة المخالفات على النحو الآتي:
- مخالفة المصرف لأحكام نظامه الأساسي أو أحكام القانون أو التدابير التي يفرضها المصرف المركزي بمقتضى الصلاحيات المستمدة من هذا القانون،
- أو إذا قدّم البنك بيانات أو معلومات ناقصة أو غير مطابقة للحقيقة،
أمّا العقوبات المنصوص عليها في هذه المادة، فتتضمن:
أ‌- التنبيه.
ب‌- خفض تسهيلات التسليف المعطاة له أو تعليقها.
ج- منعه من القيام ببعض العمليات أو فرض أية تحديدات أخرى في ممارسته المهنة.
د- تعيين مراقب أو مدير مؤقت.
هـ- شطبه من لائحة المصارف.
الاعتراضات التي ظهرت في لجنة الرقابة على المصارف في شأن التقرير المدبّج بحق «البنك اللبناني السوري التجاري» تنبع من المادة 208 نفسها، إذ لا يوجد في التقرير ما يشير إلى أن المصرف ارتكب أيّاً من هذه المخالفات، وكل ما في الأمر أن الإدارة الأميركية اتخذت من عملية تحويل خاطئة بالدولار إلى مصرف أميركي، قام بها أحد الموظفين، ذريعة لفتح ملف هذا المصرف، خصوصاً أنّ السلطات الأميركية كانت تردد أنها تشتبه بعد شمول المصرف بالعقوبات في استمرار تعامله بالعملة الصعبة وليس فقط بالليرة السورية.
في المحصلة، قرر الأميركيون معاقبة المصرف اللبناني السوري التجاري، وتجاوب معهم حاكم مصرف لبنان، وهذا ما دفع البعض إلى القول إن «المسألة سياسية»، ولا تتعلق بالعمل المصرفي، وبالتالي لا يجوز الزج بلجنة الرقابة في عمل سياسي بحت، قد يستدعي أفعالاً وردود أفعال كثيرة، كذلك لا يجوز لسلامة أن يلجأ إلى طلب تغطية اللجنة والتذرّع بتقاريرها لاتخاذ إجراءات عقابية ذات طابع سياسي.
اللافت للنظر في ذروة هذا السجال، أن قراراً بتعيين مراقب على البنك كان قد اتُّخذ في عام 2012، في إطار مسايرة الضغوط الأميركية، ولكن القرار اتخذته حينها هيئة التحقيق الخاصة، فما الذي استجدّ حتى يكون سلامة مجبراً على اتخاذ القرار نفسه الآن عبر الهيئة المصرفية العليا؟

مصدر الضغوط
في الفترة ما بين 10 و13 تشرين الأول الماضي، وعلى هامش مشاركة حاكم مصرف لبنان وجمعية المصارف في الاجتماعات السنوية المشتركة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في واشنطن، حصلت لقاءات مع المساعد الجديد لوزير الخارجية لشؤون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الأرهاب، مارشال بيلينغسليMarshall Billingslea. يومها أُبلِغ سلامة شفهياً بضرورة إقفال «البنك اللبناني السوري التجاري» و«بنك صادرات إيران».
زار بيلينغسلي بيروت يومي 22 و 23 كانون الثاني الماضي، لمناقشة مكافحة عمليات التمويل غير المشروع، بما في ذلك تمويل نشاطات حزب الله. وخلال هذه الزيارة، التقى الرؤساء ميشال عون، سعد الحريري ونبيه بري، إضافة إلى وزير المال علي حسن خليل، وحاكم مصرف لبنان، ورئيس لجنة الرقابة على المصارف وجمعية مصارف لبنان... وطالب مجدداً بإقفال «البنك اللبناني السوري التجاري»، ولم يقبل بتقديم أي إيضاحات حول السبب.
هذه المرّة، حاول سلامة معرفة ردّ الفعل السوري إذا استجاب للطلب الاميركي، وبحسب مصادر مطلعة، تلقى سلامة رسالة عبر حاكم المصرف المركزي السوري، مفادها أن ردّ القيادة السورية سيكون مؤلماً إذا أقدم لبنان على مثل هذه الخطوة. وتردد أن دمشق ستفكر عندها في عقوبات على المعابر الحدودية مع لبنان.
وكانت وزارة الخزانة الأميركية قد أدرجت البنك التجاري اللبناني السوري، والشركة التابعة له في لبنان، على لائحة العقوبات في شهر آب 2011، أي بعد 5 أشهر فقط من خروج التظاهرات في سوريا. واتهمت الوزارة هذا البنك بأنه يقدّم الخدمات المالية لمركز الدراسات والبحوث العلمية في سوريا (SSRC) وبنك تانشون التجاري (Tanchon) في كوريا الشمالية، المدرجَين على لائحة العقوبات منذ عام 2005، بذريعة دعمهما لانتشار أسلحة الدمار الشامل في سوريا وكوريا الشمالية.
مصادر البنك نفت علمها بما يُعَدّ له في مصرف لبنان لجهة وجود ملف يتضمن طلباً من لجنة الرقابة على المصارف بتعيين مراقب على البنك وإحالة الملف على الهيئة المصرفية العليا.

المصدر: جريدة الأخبار