إنها الساعة الصفر التي انتظرتها الولايات المتحدة بفارغ الصبر للانقضاض على الثورة البوليفارية التي كانت فاتحة عهد الاستقلال اللاتيني، وركيزة انطلاق المشروع المناهض لسياسات الاستعباد بحق نصف مليار نسمة، وتحويل أكثر من عشرين مليون كلم مربع إلى حديقة خلفية معزولة عن الخريطة السياسية الدولية. تغيّرت الأزمنة كثيراً منذ 11 أيلول/ سبتمبر 1973. فلم تعد المخابرات المركزية الأميركية، عند تنفيذ برامجها لإسقاط الأنظمة، بحاجة إلى إخفاء دعمها للانقلابيين كما اضطرت إلى أن تفعل مثلاً خلال انقلاب الجنرال بينوشيه على حكومة الرئيس سيلفادور الليندي المنتخبة. اليوم، ينزل الانقلابيون علناً، وكأنهم ذاهبون إلى حفل عام، ويقفون أمام حشود المؤيدين، ليعلن أحدهم خلع الرئيس المنتخب ديمقراطياً بإرادة أغلبية المواطنين، وتسلّمه للسلطة رئيساً انتقالياً للبلاد. ولا يكاد هذا «الأحدهم» ينزل عن المنصة حتى يكون رئيسُ الولايات المتحدة شخصياً أول مهنئيه، مُعلناً منحه الشرعية واعتراف «الإمبراطورية» به، قبل أن يتسابق الحكام الفاسدون في الدول الدائرة في الفلك الأميركي إلى الإقرار بما يراه البيت الأبيض. هذا تماماً كان سيناريو الانقلاب المتلفز الذي شاهده الملايين عبر العالم في بثّ حي ومباشر من العاصمة الفنزويلية كاراكاس، أوّل من أمس. ردود الفعل تراوحت بين الإدانة والتأييد بحسب المرجعية الأيديولوجية لصاحبها. ومع ذلك، فإن الجميع اشترك في وصف الأوضاع الاقتصادية المتردية التي انتهت إليها فنزويلا، وصعوبات العيش التي يعاني منها المواطن الفنزويلي العادي بعد عشرين عاماً على تولّي هوغو تشافيز السلطة في البلاد، وإطلاقه ثورته البوليفارية

ترامب يشعل كراكاس: نذر حرب أهلية

لم يصمد الحلم «الوحدوي» اللاتيني أكثر من عقد ونصف عقد. فالحرب الناعمة انتقت أهدافها بعناية ودقة؛ إذ رعت واشنطن بإداراتها المتعاقبة الانقلابات الدستورية حيث استطاعت. أسقطت رئاسة القسّ فرناندو لوغو في الباراغواي عام 2011، ثم قادت عزل الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف عام 2015، وتسلّلت إلى الأرجنتين بالتأثير الاقتصادي والإعلامي. لكن فنزويلا التي ظلّت عصية على اختراق بنيتها السياسية والاجتماعية كانت ثمة حسابات أخرى إزاءها، فبدأت اللعبة بسياسات الحصار والتجويع، واستمرّت عبر إشاعة الفوضى والانقسام الداخلي، ولم تنتهِ بالتلويح بالخيارات العسكرية لإسقاط آخر قلاع اليسار في أميركا الجنوبية.

يعتقد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن الفرصة أصبحت سانحة للتخلّص من عدوه اللاتيني الأول، نيكولاس مادورو، خصوصاً بعد خسارة الأخير بُعده الإقليمي بفعل التحوّلات السياسية التي أنتجت أنظمة تتناغم مع المشروع الأميركي، وجاهزية المعارضة الفنزويلية للمواجهة الداخلية، بعد إرغامها على التخلّي عن خلافاتها الحادة في ما بينها، وتوحيدها خلف رئيس «الجمعية الوطنية» خوان غوايدو، وقطع الطريق أمام أي حوار داخلي لتنظيم الأزمة. كلها إجراءات ترافقت مع إنهاك الشعب الفنزويلي بفعل الحصار المطبق وتضييق الخيارات أمامه، ما أعطى المعارضة هامشاً شعبياً استثمرته في الانقلاب السياسي في انتظار تداعيات المشهد الداخلي، وقيادة المواجهة الحاسمة مع القوى الداعمة لمادورو، خصوصاً المؤسسة العسكرية التي لا تزال متمسكة بخياراتها الوطنية على رغم التهويل الدولي الذي تمثّل في الاعتراف برئيس البرلمان المعارض رئيساً انتقالياً للبلاد.
في تفاصيل الأسباب التي أدّت إلى تداعي المشهد الفنزويلي بوتيرة سريعة، يرجّح الخبراء أن ترامب يريد حسم هذا الملف الذي سيعطيه دفعاً داخلياً هو بأمسّ الحاجة إليه للحدّ من أزماته الداخلية الحادة، كما سيشكّل إنجازاً استراتيجياً قد يستثمره على المدى البعيد، خصوصاً في الانتخابات الرئاسية المقبلة، إضافة إلى الأطماع الأميركية في النفط الفنزويلي، لا سيما أن كاراكاس تستعدّ لبدء التنقيب في مياهها الإقليمية المحاذية لدولة غويانيا، التي قد تحول هذا البلد اللاتيني إلى أكبر منتج للنفط في السنوات القليلة المقبلة. الأهم من ذلك، قطعُ الطريق أمام روسيا في إيجاد موطئ قدم خلف الأطلسي، خصوصاً بعد ورود معلومات عن اتفاق روسي ــــ فنزويلي على إنشاء قاعدة عسكرية روسية على جزيرة لا أورشيلا الفنزويلية التي تبعد أقل من 1500 كلم عن ولاية فلوريدا الأميركية، لاعتراض الصواريخ البعيدة المدى التي قد تستهدف المقاتلات والبوارج الروسية. المخاوف الأميركية أكدها هبوط أربع مقاتلات روسية حديثة من نوع «TU-160» في مطار سيمون بوليفار وسط كاراكاس أواخر العام الماضي، إضافة إلى تصريحات وزير الدفاع الفنزويلي، فالدمار بادرينو، عن حق بلاده في إنشاء معاهدات الدفاع المشترك مع الأصدقاء.


وعلى رغم جدية الإجراءات الأميركية وتأثيرها في الداخل الفنزويلي، إضافة إلى تحشيد الدول الموالية لواشنطن من أجل سحب شرعية مادورو، فإن مطلعين يرون أن «سقوط فنزويلا» لن يكون أمراً سهلاً، خصوصاً أن المعارضة لم تستطع خرق المؤسسة العسكرية التي لا تزال متماسكة خلف الرئيس، بل رفض قياديوها الانصياع إلى ما رأوا فيها «مشاريع مشبوهة»، واصفين تنصيب غوايدو بـ«المنافي للقوانين والقيم التاريخية». لذلك، قد تمتد الأزمة التي أرادت أن تحسمها واشنطن بسرعة قياسية إلى وقت يفوق الحسابات الأميركية التي قد تصطدم بمصالح حلفاء كاراكاس. هؤلاء أكدوا تمسكهم باحترام الديموقراطية الفنزويلية ورفض أي وصاية خارجية، وهي مواقف تصاعدت منذ أمس لتصل إلى تحذير صيني ــــ روسي للولايات المتحدة من الإمعان في توتير الساحة الفنزويلية أو التفكير في أي إجراء عسكري.
أمام هذا الواقع، تبدو البلاد أمام منعطف مصيري، فواشنطن قالت كلمتها، والمعارضة بدأت التنفيذ من دون الالتفات إلى خطورة هذا التصعيد الذي فرض على مادورو الاستعداد للمواجهة القاسية التي بدأت فعلاً في شوارع العاصمة، وحصدت قرابة عشرين ضحية وفق المصادر الرسمية حتى ليل أمس. مواجهةٌ تشي بأن كاراكاس طوت ملف التعايش القسري، إذ إن البلاد لم تعد تتسع لمشروعين متناقضين في الشكل والمضمون.

المصدر: علي فرحات - الاخبار