بعد الحرب العالمية الثانية سيطرت أميركا على السياسة والاقتصاد العالميين وأصبحت تمثل القطب الدولي الأول في العالم، وتحول الدولار الى العملة الدولية الأولى وسيد الاقتصاد العالمي. 

لا شك أن اميركا دولة كبيرة وغنية وقوية. ولكن هناك نقطة جوهرية ينبغي أخذها تماماً بعين الاعتبار وهي أن أميركا لم تفرض نفسها في مركز الزعامة الدولية بقوتها وغناها الخاصين، بل انها ـ بناء على ذلك ـ حصلت على تفويض عالمي بأن تكون زعيمة العالم بعد الحرب العالمية الثانية. 

ولننظر الى ذلك عن قرب: 

أولاً ـ عشية نهاية الحرب العالمية الثانية (في 1 الى 22 حزيران/ يونيو 1944) عقد في غابة "بريتون وودز" في الولايات المتحدة الاميركية المؤتمر المعروف بهذا الاسم والذي دعت اليه الولايات المتحدة وحضره زعماء وممثلو 45 دولة في العالم. وفي هذا المؤتمر أقر انشاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لتنظيم حركة الرأسمال العالمي. ولكن أهم قرار صدر عن هذا المؤتمر هو قرار اعتبار الدولار العملة الرئيسية لدول العالم أجمع، بدون تغطية ذهبية، أي عملياً إلغاء القاعدة الذهبية في المعاملات التجارية الخارجية واعتبار الدولار الورقي الاميركي (الذي لا قيمة فعلية له بدون تغطيته الذهبية كأي عملة وطنية اخرى) بديلا عن الذهب، أي أنه صار بامكان الولايات المتحدة الاميركية بموجب هذا التفويض أن تطبع ما تشاء من عملتها الورقية وتلقي بها في السوق المالية والتجارية العالمية وتتحكم بمالية واقتصاد العالم اجمع ومالية كل دولة على حدة. ولكن بالمقابل فإن ممثلي الولايات المتحدة تعهدوا (شفاهيا او خطيا وهذه مسألة شكلية تماما بالفعل) بأن كل بنك أو شركة أو دولة أجنبية تريد أن تستبدل الدولارات الورقية التي بحوزتها بالذهب، فإن الدولة الاميركية تدفع لها مقابل كل 35 دولارا اميركيا ورقيا اونصة ذهبية أو ما يعادلها من السلع والمنتوجات الضرورية. وهذه المعادلة صارت منذ ذلك الحين كقاعدة متعارف عليها وهي: ان اونصة الذهب تساوي 35 دولارا اميركيا. 

وبموجب ما يسمى "اتفاقية بريتون وودز" العالمية، أصبح الدولار العملة العالمية الأولى والوحيدة (بدون تغطية ذهبية فعلية)، وأصبحت كل عملات العالم عملات وطنية لكل بلد (مع تغطية ذهبية الزامية). وبناء على ذلك أصدرت أميركا فيما بعد ما يسمى اليورودولار لانعاش الاقتصاد الاوروبي المنهار بموجب "مشروع مارشال" كما أصدرت البترودولار لدفع مستحقات نفط السعودية والخليج. وهذا ما يمكن أن نسميه مجازاً (وفعليا): عصر هيمنة الدولار على العالم. 

ثانياً ـ بعد بضعة أشهر فقط من مؤتمر (واتفاقية) بريتون وودز، وفي 4 ـ 11 شباط/ فبراير 1945، انعقد في يالطا في الاتحاد السوفياتي السابق ما يسمى "مؤتمر يالطا" الذي صدرت عنه ما تسمى "اتفاقية يالطا" التي تحمل تواقيع "المنتصرين" الرئيس الاميركي الأشهر روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، والزعيم السوفياتي جوزف ستالين. لقد كتب الكثير عن "اتفاقية يالطا" وسيكتب ايضا اكثر.
 
والرأي السائد هو أن "اتفاقية يالطا" كانت لتقاسم النفوذ العالمي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتقسيم العالم الى معسكرين "شرقي" بزعامة الاتحاد السوفياتي (ويضم المناطق التي وصل اليها الجيش الاحمر في الحرب)، و"غربي" بزعامة الولايات المتحدة الاميركية (ويضم كافة اجزاء العالم الاخرى). وفي رأينا المتواضع ان الفحوى الاساسية لاتفاقية يالطا هي التفويض الستاليني لاميركا بأن تكون هي زعيمة العالم اجمع، بما في ذلك  "المنطقة السوفياتية"، وان ستالين (والستالينية ووريثتها النيوستالينية) ليست اكثر من "عملاء" (وحتى لا يزعل الخونة الستالينيون والنيوستالينيون العرب (والاكراد) امثال فؤاد النمري، كريم مروة، فخري كريم وصلاح بدر الدين، فلنقل: "حلفاء" ) الطغمة المالية اليهودية العالمية. وهم ليسوا اكثر من "اوصياء" او "وكلاء" من قبل الزعامة الاميركية لحكم "المنطقة السوفياتية" والعمل على لجم اندفاعة الشعب الروسي وشعوب تلك المنطقة لبناء الاشتراكية، ولتخريب وعرقلة الحركة التحررية الوطنية والتقدمية والثورية والشيوعية في العالم، وتشويه وتخريب النظام الاشتراكي والسوفياتي وتهيئة الظروف الذاتية والموضوعية للقضاء عليه من الداخل في الوقت المناسب، وهذا ما حدث تاريخيا عملا باتفاقية يالطا. 

وعلينا أن نذكر هنا أنه لدى توقيع اتفاقية يالطا كان الجيش الأحمر قد اخترق جميع خطوط الدفاع الالمانية النازية واقتحم الحدود الالمانية ذاتها واصبح على مشارف برلين، وسرعان ما تجاوز برلين بمئات الكيلومترات، ولم يعد يحتاج سوى إلى وقت قصير ليصل الى اليونان وفرنسا وايطاليا بمساعدة الاحزاب الشيوعية التي كانت تمثل عصب المقاومة ضد الفاشية في تلك البلدان، وبذلك كانت اوروبا كلها ستصبح تحت المظلة السوفياتية (ربما باستثناء الجزيرة البريطانية). ولكن ستالين تلقى الأمر السري السامي اليهودي ـ الاميركي بالتوقف فتوقف. وكان هذا اول تطبيق عملي لاتفاقية يالطا، واكد على ولاء ستالين لليهودية العالمية والزعامة الاميركية.

ثالثاً ـ بعد نهاية مؤتمر يالطا طار ستالين عائدا الى موسكو، وتشرشل عائدا الى لندن، أما روزفلت فطار الى مصر، واجتمع في 14 شباط/ فبراير 1945 مع ملك النفط السعودي عبد العزيز آل سعود، وذلك على متن الطراد الحربي الاميركي USS كوينسي الذي كان راسيا في البحيرات المرة في قناة السويس (وهذا بحد ذاته له دلالته التجارية الدولية، بالاضافة الى دلالته العسكرية والسياسية، فيما يتعلق بأهمية قناة السويس). وكان الملك عبد العزيز قد أمر بنصب خيمة عربية أصيلة على متن الطراد كوينسي كي يستقبل فيها "ضيفه" و"صديقه" الاميركي رفيع المستوى في "جو عربي" خالص يليق بملك السعودية وبـ"الضيافة العربية". 

وفي 14 شباط/ فبراير 1945 دخل الرئيس الأميركي المقعد على كرسيه المتحرك الى هذه الخيمة العربية ليجتمع بالملك عبد العزيز. وعلى رائحة شواء الضأن المذبوح على الطريقة الشرعية، وفيما آلة التسجيل الحديثة اميركية الصنع تصدح بصوت معتدل ببعض الآيات المقدسة، قرأ عبد العزيز الفاتحة، وتصافح الرجلان، وتم الاتفاق بينهما على تسليم النفط السعودي الى الولايات المتحدة الاميركية، كي تهتم هي بكل "متاعب!" ومنغصات التنقيب والاستخراج والنقل والتكرير والتصنيع والتسويق، مقابل تأمين الحماية الاميركية الكاملة، داخليا وخارجيا، لحكم الأسرة السعودية، وأن يقبض الملك وأفراد أسرته وحواشيهم ما بين 2 – 3 دولارات اميركية مقابل كل برميل نفط خام مستخرج، ولا يكون من شغل للعائلة المالكة سوى أن تحصي البراميل وتقبض الدولارات وتنفقها وتكدسها على هواها. ويقال، والعهدة على الراوي، ان مدة الاتفاقية هي 60 سنة قابلة للتجديد حسب اتفاق الطرفين "الصديقين". 

واذا أجرينا قسمة بسيطة لـ 35 دولارا (سعر اونصة الذهب بالدولار الورقي، كما تعهدت اميركا في مؤتمر بريتون وودز) على 2 - 3  دولارات تقبضها السعودية عن كل برميل نفط خام مستخرج، ومع حساب ذبذبة اسعار السوق الطبيعية، تطلع معنا ببساطة نتيجة ان سعر اونصة الذهب (35 دولارا) يساوي ما بين 10 و 20 برميل نفط خام. واذا اجرينا اي عملية حسابية بسيطة لسعر اونصة الذهب المعلن والسعر المعلن لبرميل النفط الخام، منذ ايام اتفاقية روزفلت ـ عبد العزيز الى يومنا هذا، لوجدنا ان سعر اونصة الذهب كان دائما يساوي من 10 الى 20 برميل نفط خام، أي أن اميركا تعطي السعودية الحد الادنى وما دون (وهو على كل حال كثير جدا) وتتصرف وتتحكم بأسعار النفط الخام والمصنّع كما تشاء وتسيطر على البورصات والحركة المالية والتجارية والاقتصادية للعالم. 

وهكذا ـ ومن خارج دورتها الاقتصاية الخاصة تماما ـ وتقريباً بدون مقابل، ضمنت أميركا لدولاراتها الورقية التافهة والتي هي بدون تغطية ذهبية، تغطية أهم وأسهل هي التغطية النفطية. وربما لهذا السبب سمي النفط "الذهب الاسود". وفيما بعد جرى مد خط انبوب النفط (التابلاين) من السعودية الى ترمينال الزهراني في لبنان، كما جرى "سرا!" مد فرع منه من الجولان السوري الى حيفا في الاراضي الفلسطينية المحتلة. وبعد حرب حزيران/ يونيو 1967 وتسليم الجولان الى ليفي اشكول بدون قتال، قامت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعملية نسف انبوب النفط السعودي الذاهب الى حيفا. وقد اعتقل منفذو العملية، كما اعتقل الدكتور جورج حبش امين عام الجبهة. وجرى لاحقا تهريب الدكتور حبش من السجن. اما الشباب الذين نفذوا تفجير انبوب حيفا فماتوا تحت التعذيب النفسي والجسدي في السجون السورية. وهذا يدل على مدى "قدسية الحلف النفطي" السعودي ـ الاميركي ـ اليهودي. 

خلاصة ما تقدم: وضعت اميركا في جيبها اتفاقية بريتون وودز الدولية التي تخولها استخدام الدولار الورقي بدون تغطية ذهبية، واتفاقية يالطا التي تمنح اميركا السيادة الاستراتيجية (العسكرية ـ الامنية ـ السياسية) التي تفوضها تحطيم رأس كل من يجرؤ ان يقول "لا!" لاميركا، واخيرا الاتفاقية مع السعودية التي تمنحها امتياز تأمين التغطية النفطية لدولاراتها التي هي بدون تغطية ذهبية.

هذا هو "سر" او "اسرار" معبودية الدولار وهيمنته على التوليفة العالمية الاستراتيجية، الاقتصادية، السياسية والاعلامية.

الان بدأ زمن آخر، وهو ما نتناوله على حدة.

المصدر: حورج حداد - موقع العهد